واهم من يعتقد أن المشاكل الراهنة، والخلافات بين الأطراف، قبل تشكيل هياكل السلطة الجديدة في السودان، هي الاختبار الأصعب والمهدد للمرحلة الانتقالية وللثورة. فهذه المشاكل تتضاءل بشدة، إذا قارناها بالتحديات الحقيقية المقبلة والتي ستواجه مؤسسات المرحلة الانتقالية. هذه التحديات لن تكون اختباراً فحسب للسلطات الانتقالية ومدى قدرتها على معالجة جبل المشاكل والقضايا التي تنتظرها، بل إنها ستحدد مدى نجاح الثورة في تحقيق أهدافها، وما إذا كانت البلاد ستعبر بنجاح إلى مرحلة الانتخابات الموعودة بعد نحو 39 شهراً، أم أنها ستقع مجدداً فريسة للمتربصين والطامعين الذين يريدون القفز إلى الحكم بالانقلابات.
هناك من يقول إن عصر الانقلابات انتهى بهذه الثورة، وإنه لا مجال لنجاح أي عسكري مغامر في الوصول إلى الحكم وفرض سلطته، لأنه سيواجه هبة جديدة وسريعة من الشباب الذين تعلموا قيماً جديدة من خلال ثورتهم السلمية المبهرة. هذا الكلام قد يكون من باب التمنيات التي يريد كل حادب على السودان تصديقها، لكنه لا يلغي التاريخ الذي يقول لنا إن العسكر والمتسلقين عبرهم حكموا السودان 54 عاماً من مجموع 63 عاماً منذ استقلاله عام 1956. أضف إلى ذلك أن هناك مؤشرات كثيرة على وجود أطراف لا تريد للفترة الانتقالية أن تنجح وتصل إلى نهايتها الانتخابية، سواء كانت هذه الأطراف عسكرية أو مدنية من بقايا النظام الساقط والحركة الإسلاموية. وقد كانت هناك محاولات بالفعل لوأد الثورة طوال الفترة التي سبقت توقيع الاتفاق بين المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير»، لكنها لم تنجح بسبب المواكب المليونية التي سيّرها الشعب، وكانت رسالة قوية أحبطت تفكير الطامعين في القفز على السلطة، على الأقل في الوقت الراهن.
هناك كثيرون يرون أن الثورة تحتاج إلى حراستها خلال الفترة الانتقالية المليئة بالتحديات التي قد تغري الطامعين والمتربصين، وأنه لهذا السبب يستحسن أن تنأى قيادات تجمع المهنيين الذي لعب دوراً محورياً في تفجير الثورة وفي قيادتها، عن المشاركة في هياكل السلطة الانتقالية لكي تبقى مشرفة على العمل الميداني والتعبوي الذي يجعل الثورة حية حتى تحقق أهدافها وتصل إلى مرحلة الانتخابات بعد نحو ثلاث سنوات. الأمر الآخر أن قيادات تجمع المهنيين تستطيع من خلال النأي عن المشاركة في السلطة، أن تساعد في تشكيل تكتل أو حزب شبابي جديد ذي مصداقية، يقطع الطريق على المحاولات الانتهازية أو المشبوهة لتشكيل حركات باسم الشباب، مثلما رأينا في بعض التحركات التي قادها محسوبون على النظام الساقط.
هناك بالطبع من يتمنون رؤية بعض قيادات تجمع المهنيين التي سطع نجمها خلال الفترة الماضية، في مواقع رئيسية في الحكومة الانتقالية، ويجادلون بأن ذلك سيدعم الحكومة ويساعد في نجاح مرحلة الانتقال. لكن مشاركة هذه القيادات في الحكومة الآن سيعني حرمانها من المشاركة في المرحلة الانتخابية التالية، وذلك انطلاقاً من المبدأ الذي أقر في الوثيقة الدستورية ويقضي بأن كل من يشارك في هياكل السلطة في الفترة الانتقالية لا يحق له خوض الانتخابات المقبلة، وبالتالي لا يشارك في الدورة الأولى من الحكم الديمقراطي.
تجمع المهنيين على أي حال قرر أن يكون دوره رقابياً في الفترة الانتقالية سواء بتفرغ بعض قياداته لحراسة الثورة بإبقاء جذوتها مشتعلة، والعمل الميداني حياً ونشطاً، أو عبر مشاركة عدد من عناصره في المجلس التشريعي الذي سيتولى سن القوانين والتشريعات، ويمارس سلطة مساءلة ومحاسبة الجهاز التنفيذي، بالإضافة إلى مهامه الحيوية الأخرى.
إضافة إلى دور تجمع المهنيين المنتظر، فإن بقاء الأحزاب السياسية بعيدة عن المشاركة في الحكومة الانتقالية التي يفترض أن تكون حكومة كفاءات من المستقلين، سيكون أيضاً، لو تحقق، عاملاً مساعداً في حماية الثورة. فهو بداية سيحمي الحكومة من أن تصبح عرضة للمماحكات السياسية، أو أن تكون قراراتها خاضعة للحسابات الحزبية أو الانتخابية. كما أنه سيعني أن هذه الأحزاب ستنصرف، كما هو مفترض، لإعادة بناء قواعدها وللعمل الميداني، ولإعادة توحيد صفوفها بعدما تشرذمت في عهد عمر البشير، وستكون لها مصلحة كبرى في حماية الفترة الانتقالية وصولاً إلى الانتخابات. ولا شك أن الأحزاب عندما تقوى وتجدد شبابها، فإن ذلك سيعزز من فرص صمود الديمقراطية المقبلة، التي يؤمل أن تكون راسخة ومستدامة، وليست قصيرة كسابقاتها.
إذا لم تحدث مفاجآت وسارت الأمور كما هو متفق عليه، فإن الأسبوع المقبل سيشهد البداية الفعلية للفترة الانتقالية التي يؤمل أن تنتهي بالانتخابات التي ستنقل السودان إلى «الجمهورية الديمقراطية الرابعة». الخطوة الأولى ستكون التوقيع النهائي على الوثيقة الدستورية المقرر بعد غد في احتفال تحضره أطراف إقليمية ودولية، يعقبها في اليوم التالي تعيين مجلس السيادة وحل المجلس العسكري، ثم تعيين رئيس الوزراء يوم الثلاثاء المقبل، لتنطلق مشاورات تشكيل الحكومة وتسلمها لمهامها نهاية الشهر الجاري.
هذه الفترة تنتظرها مهام كبرى حددتها الوثيقة الدستورية في 16 مهمة، تبدأ من العمل على إنهاء الحروب وتحقيق السلام خلال ستة أشهر، مروراً بمعالجة الأزمة الاقتصادية، وتفكيك بنية النظام الساقط ومحاسبة منسوبيه عن الجرائم التي ارتكبت خلال الثلاثين عاماً الماضية سواء كانت جرائم حرب أو قتل أو تعذيب أو نهب أو فساد، والعمل على تسوية أوضاع المفصولين تعسفياً، والإصلاح القانوني، وإنشاء آليات الإعداد لوضع الدستور الدائم، وانتهاء بتعزيز دور المرأة والشباب وتوسيع فرصهم في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. هذه مجرد عينة من المهام التي حددتها الوثيقة الدستورية، وهي حتماً لا تغطي كل ما هو مطلوب من الحكومة الانتقالية، أو التحديات التي ستواجهها.
هذه التحديات تتطلب تعاون كل الأطراف لإنجاح المرحلة الانتقالية وحمايتها في المطبات الصعبة التي يتوقع أن تكون كثيرة، وفي التصدي لأولئك الذين قد تقودهم المطامع الذاتية والطموحات الشخصية إلى محاولة عرقلة عمل الحكومة الانتقالية والضغط عليها لتحقيق مكاسب آنية، أو لإفشالها بالتعاون مع جهات أخرى تريد الإطاحة بالتجربة كلها. فطول الفترة الانتقالية يجعلها عرضة للتجاذبات، ولمؤامرات المتربصين الذين سيعملون على وضع العراقيل، وخلق المشاكل، وتضخيم أي فشل.
الثورة لم تنتهِ، بل ربما تكون بدأت مرحلتها الثانية والأهم مع عملية نقل السلطة للأجهزة الانتقالية، وذلك لكي تضمن بلوغ هذه الفترة نهايتها بإجراء الانتخابات ونقل الحكم إلى سلطة مدنية منتخبة تضع السودان على سكة الديمقراطية من جديد.
صحيفة الشرق الأوسط