بعد صراع دموي مرير، حدث توافق بين المجلس العسكري وقوى الثورة السودانية على تشكيل حكومة مدنية، وهو توافق فرحنا به على علاته، على أمل أن تنجح الحكومة المدنية في سد الثغرات في ذلك التوافق بنظام “البيان بالعمل”، وبينما الثوار يتأهبون لمرحلة إعادة تأهيل مرافق البلاد العامة وكنس جبال القاذورات التي خلفها حكم ال البشير، شمرت الجبهة الثورية عن قرونها معرضة محتويات المستودع السوداني من خزف جميل الى الدمار والبعثرة.
تتكون تلك الجبهة من ثلاث حركات مسلحة، أو بالأحرى كانت مسلحة، تتمتع بعضوية تحالف قوى الحرية والتغيير، ثم- وكما يقول أهلنا الشايقية: العُشر قام له شوك، فما أن حان أوان تشكيل الحكومة بموجب جدول زمني معلوم، حتى طالبت الجبهة الثورية بمكافأة نهاية الخدمة، على شكل مقاعد في مجلسي الوزراء والسيادة، بمنطق يا فيها يا أفسيها الذي يستخدمه البلطجية الذين يأتون لملعب الكرة (المطاطية) بعد ان يقطع اللعب شوطا طويلا، أي ان قادة الجبهة أطلقوا تهديدات مبطنة بالعودة لاستخدام السلاح ما لم تتم الاستجابة لمطالبهم.
ومن الواضح ان بعض قادة تلك الجبهة يفتقرون الى فضيلة الحياء، فجبريل إبراهيم رئيس ما تبقى من حركة العدل والمساواة ظل يتهكم على الثورة، ويصف المعتصمين امام القيادة العامة بأنهم عواطلية وقال كلاما كثيرا جارحا في حق الثورة، أما مني أركو مناوي الذي صاحب تجربة الجلوس في القصر الجمهوري طرطورا تحت إمرة البشير، فقد كانت أبرز مساهماته في الحراك هو تكسير مجاديف الحركيين، والتغزل بالمجلس العسكري، وسرعان ما هرول الى انجمينا للقاء نائب رئيس المجلس الفريق حميدتي والإعلان أمامه بالتبروء من قوى الحرية والتغيير، أما المدعو التوم هجو عاشق الأضواء فقد ظل وما زال يطلق التصريحات النارية ضد قوى التغيير بلغة ابتزازية وبمنطق “يا فيها في الصدارة يا أفسيها ببوز بالكدارة”
(للدكتور عبد الله علي إبراهيم مقال متقن السبك حول هذا الأمر بعنوان: “الجبهة الثورية- هنظبة الثورة”، والهنظبة في لغة العوام هو ما يحدث عندما يشهر احدهم مسدسا في فيلم كاوبوي ويأمر غريمة بالاستسلام بعبادة هاندس أب hands up، فيقال عنه انه هنظبو).
لقرابة شهرين ظلت الجبهة الثورية تفرمل انطلاقة الحكم المدني، وترهن ذلك بتخصيص مقاعد وثيرة لها في هياكل الحكم العليا مع ذر الرماد والتراب في الأعين بالحديث عن ضرورة تضمين “تحقيق السلام” في الإعلان الدستوري الذي تم اقراره في 4 أغسطس، ولكن مع إيراد “الجبهة” بالاسم في الإعلان كممثل وحيد للحركات المسلحة، بينما ما نعرفه هو أن قوات الجبهة مجتمعة لا تعادل واحدا على عشرة من عديد القوات التي يقودها عبد العزيز الحلو في جنوب كردفان، وهناك الحركة التي يقودها عبد الواحد نور والتي ما تزال تملك قواعد على الأرض وقوات ضاربة، وقياسا على مطالب الجبهة الثورية من حق عبد الواحد والحلو المطالبة بنصف المناصب العليا في الحكومة الجديدة
وما زالت الجبهة الثورية تواصل عرقلة تشكيل الحكومة المدنية فبعد ان فاوضت قوى التغيير في اديس ابابا والقاهرة هاهم يسعون لحلقة جديدة من التفاوض حول نفس المواضيع في جوبا، ويقف ذلك دليلا على أنها تريد الاستقواء بالخارج لأنها لا تملك أرضية شعبية صلبة في الداخل.
مساء بعد غد الجمعة يتدفق الدم مجددا في شرايين ثورتنا، عبر قطار ينطلق من عطبرة التي شرقت ومرقت كثيرا من قبل، وتتشكل أطول مظاهرة عندما تحيي الجماهير القطار على امتداد قضبان السكة حديد من عطبرة الى الخرطوم، ثم يقف الثوار شهودا أمام ممثلي دول الجوار والمجتمع الدولي على التوقيع البروتوكولي على الاتفاقين اللذين سيمهدان لتشكيل الحكومة المدنية.
سيكون احتفال السبت 17 أغسطس تتويجا لنضالات تخللتها الكثير من التضحيات والآلام، ومن حق من صنعوا الثورة ان يفرحوا بأنهم على أعتاب الغد المأمول الذي بذلوا في سبيله الدم والدموع، فالجماهير “السلمية” في أركان السودان الأربعة وليس الجبهة الثورية هي التي صنعت ثورة ديسمبر، ولا ننكر ان ان الحركات الممثلة في الجبهة الثورية بادرت لمعارضة حكم البشير بقوة السلاح حينا من الدهر، ولكن ثورة ديسمبر صناعة شعبية غير مسلحة، وجماهيرها هي التي هتفت “يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور”، وستظل حريصة على انصاف ألمهمشين والمستضعفين في جميع ارجاء السودان بالأفعال، وليس بتوزيع كراسي الحكم على من يزعمون أنهم وحدهم المعنيون بحال اهل الهوامش.