مشاعر جميلة لا توصف أن يكون للشعب صوت حقيقي يعبر به
عن خياراته. اختيار الخبير الاقتصادي د.عبدالله حمدوك رئيساً للوزراء عن طريق ممثل
الثورة “قوى الحرية والتغيير” يفتح صفحة جديدة في تاريخ السودان، ويغلق
صفحات مظلمة تغول فيها العسكر على الحكم، مصادرين حق الشعب في اختيار من يحكمه.
هذه اللحظة التاريخية يجب ألا نمسخها بافتراض سيناريوهات تفسد على المواطنين فرحتهم، وقد قدموا الغالي والثمين من أجل هذه اللحظة، ووأتذكر قول التونسي أحمد الحفناوي: “لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية”، وهو يري زين العابدين بن علي يسقط من عرشه، حيث حوّل تونس ضيعة له ولزبانيته.
إن ما قامت به الجبهة الثورية من إهدار لجهد قوى
الحرية والتغيير، كانت في أمس الحاجة إليه لإحكام رسم خريطة المستقبل ستدفع ثمنه
غالياً، إذ وضعت نفسها في خانة “فقدان الثقة”، وكان في إمكانها أن تبادر
بدعم خطوات هذا الكيان الذي من المفترض أنها جزء منه، بحكم أن “نداء
السودان” مكون رئيس ومؤسس لتحالف قوى الحرية والتغيير.
ما يهمنا اليوم هو دعم هذه الحكومة الوليدة التي تأتي
في ظروف قاسية، وتحديات جسيمة، ولعل القدر أراد اختبارها بأن تجعلها في مواجهة
الصداع السنوي المتمثل في السيول والأمطار، التي ينبغي أن يكون التفكير فيها
والاستعداد لها مختلفين عن السابق، حيث كان “يبلبط” اللمبي
“عبدالرحيم محمد حسين” في المياه ليدلل على تعاطفه ومشاركته المواطنين
المعاناة.
ومن أهم اشكال الدعم أن تهدئ النقابات
“اللعب” فلا تبدأ شغبها بالإضرابات والاحتجاجات المعطلة لحركة الحياة
بمطالبات فئوية لا تخفى على حكومة جاءت بإرادة الشعب، وعلينا التحلي بحكمة أهلنا
“العافية درجات”، فلا تملك هذه الحكومة عصا موسى، وإن كانت تملك خبرات
وقدرات عالية، إذا ليست هناك محاباة وتفضيل لأهل الولاء والثقة على أهل العلم
والخبرة، ومع هذا يجب إدراك أن الحمل ثقيل، وأن ما أحدثته 30 عاماً من الفساد
والدمار يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد والمال.
وإذا كان السلام أولوية وأساساً لحكم رشيد يقود إلى التنمية، فإن من الأولوية محاصرة الفاسدين الذين ولغوا في الحرام، ونهبوا مال الشعب، وأهدروا ثرواته، وقد أضاع المجلس العسكري وقتاً طويلاً أتاح لكثيرين منهم أن يفروا بالأموال المنهوبة إلى الخارج، ولكن ما أصدرته الحكومة الأميركية من حظر لدخول رئيس المخابرات السابق صلاح قوش أراضيها يفتح الباب أمام ملاحقة كل من أخطأ في حق السودان قانونياً، حتى يلقى الجزاء الذي يستحق، ويعود الحق إلى أصحابه، وهم الشعب.
ولا يخفى على حكومة يرأسها خبير اقتصادي عالمي مثل حمدوك
أن اتخاذ المدن السودانية وفي مقدمتها العاصمة “الخرطوم” شكل المدينة
العصرية من ناحية البنى التحتية والطرز المعمارية والتقنيات الحديثة يجب أن يكون
محل الاهتمام الأول، لأننا نعيش ترييفاً واضحاً لمدننا، التي تفتقد أبسط مقومات المدينة،
ولا تطلق عليها هذه الصفة إلا مجازاً.
التطلعات كثيرة، لكن ما نحذر منه هو تهافت أحزابنا لا
على تقويم مسيرتها، وإنما على النيل من بعضها بعضاً، كأنها أمنت غدر “البيان
الأول”، والأولى أن تستمر في التوافق الذي حقق لها التفاوض مع العسكر بندية
تامة، بمساندة شعب أبي حمى ثورته، وقدم في سبيل ذلك أرواحاً ذكية من أجل هذه
اللحظة التاريخية التي يمكن أن تذهب أدراج الرياح إذا أصرت على ممارسة غبائها
السياسي.. وهأنذا أفعل ما نهيت عنه، وهو حديث السيناريوهات السيئة.
ليت كل الأحزاب تدرك ما نعيشه من خوف على ديمقراطيتنا
الوليدة، وتعمل بجد على استثمار السنوات الثلاث المقبلة في بناء الثقة مع الشعب
الذي كفر بالأحزاب، وعافاها، وخصوصاً أن الديمقراطية لا تقوم إلا على أحزاب واعية
تحترم الشعب، وتجعله أكبر همها، بدلاً من إهدار الجهد في البحث في صحائف الماضي
لإثبات علو كعبها، وهوان الخصم، في حين أن تلك الصحائف يجب أن تكون مصدراً للعظة
والاعتبار.
وليت العسكر يدركون أنهم يسهمون في رسم خريطة حياة
جديدة لبلادهم، إذا عملوا بإخلاص وتفانٍ من أجل أن نصل إلى اللحظة التاريخية
الأهم، وهي الانتخابات.
مبروك لشعبنا البطل، وأصدق الأمنيات له وهو يستأنف
دورة حياة طبيعية كشعوب الأرض المحترمة، وأبعد الله عنه شرور المتربصين أينما
كانوا، وغدر المغامرين من أبنائه.