في الربع الأخير من العام 2017 قابلت رئيس الوزراء المقترح للفترة الانتقالية الدكتور عبد الله حمدوك. لم يكن يومها بهذا الصيت السياسي والتداول الطاغي في الأوساط السياسية والإعلامية. كان لقائي به يتيماً وسريعاً، ولا يمكن التعويل عليه في معرفة شخصية حمدوك أو الإحاطة بفكره. لكن، فلنقل إنني سلمت على رجل قصير نسبيًا وبذقن حليقة، يلبس الجلباب والعمامة، ومصاب بنزلة البرد وقتها، ربما لأنه وصل إلى البلاد للتو، أو قبل يوم واحد، في مهمة قصيرة أتت به من دولة إثيوبيا الجارة القريبة ذات المناخ المختلف، حيث كان يشغل آنذاك منصب (نائب الأمين التنفيذي- اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة بأفريقيا). تحدثت إليه قليلاً بالقدر الذي يتطلبه تسجيل وتحرير مناقشة بحثية يشارك فيها هو مع الآخرين حول موضوعة شائكة ومؤرقة بالنسبة لدول العالم الثالث، تتعلق بمفهوم التنمية والمدارس الفكرية المسيطرة على هذا المفهوم، ونشرت مداولاتها فيما بعد بمجلة (الحداثة السودانية: سبتمبر 2017).
في ذلك اليوم احتاج حمدوك أن يفتعل الكحة عدة مرات ليبدد حشرجة حلقية بسيطة كانت ستمنعه الكلام، لكنه تجاوزها بالكحة، أو ربما نسيها، حين انفتحت شهيته للحديث وتكلم لما يقارب الساعة بشكل متواصل، وأقل من ذلك بشكل متقطع تعليقاً على المداخلات، وكان في كل مرة يتنقل مستخدما اللغتين، العربية والإنجليزية، ربما بحثا عن دقة المعنى وضبط دلالة المفاهيم تجنبا لأي سوء فهم محتمل في القضية الحساسة مكان النقاش العاصف.
في هذه الأيام يحظى حمدوك بإجماع وقبول كبيرين في الشارع السياسي، وتم تقديمه إلى منصب رئيس مجلس الوزراء الانتقالي باعتباره إدانة قوية لحقبة من الفساد قادها الرئيس المخلوع عمر البشير وعنونت نظامه الذي امتدت لثلاثين سنة، وربما بطريقة خفية يتم تقديمه أيضا باعتباره قصيدة هجاء طويلة للسياسيين المحترفين الذين عاصروا البشير كسياسيين متفرغين للمعارضة أو مشاركين له في الحكومة. وإذا كان الناس على حق في الإدانة الأولى فإنهم مخطئين في الثانية، إذ لم تكن الموضوعة التي تحدث فيها حمدوك في ذلك اليوم بعيدة عن السياسة إلا بمقدار ابتعاد السياسة عن التنمية أو ابتعاد التنمية عن الديمقراطية.
وفي الواقع لا يبدو أن حمدوك يهمل السياسة بالكامل إلا في شقها الحركي الذي يفرض على المُمارس الانضواء في تنظيم بعينه، وأظهر أن لديه الوعي السياسي الكافي الذي يجعله “يأسف لغياب المشروع الوطني الذي يتوّحد عليه الجميع”، ويرى أن مشروعات مثل “السودان الجديد: جون قرنق” كانت دون الطموح، وأن “المشروع الحضاري: الترابي” قاد البلاد من سيء إلى أسوأ. لذلك بدا شديد الإيمان بأن المساعي التنموية لأي بلد تتطلب “حكومة ذات إرادة سياسية، وتمتلك ولاية شرعية لأداء المهام المحددة المطلوبة منها”، وأن “الدور المركزي للدولة (في التنمية) لا يعتمد على مقدار مشاركتها في عملية التحول الاقتصادي، إنما الأهم من ذلك هو مدى قدرتها على إدارة التنمية من خلال توجه أيدولوجي حاسم ومؤسسات فعالة وسياسات يدعمها جهاز بيروقراطي ملائم، ومصحوبة بإرادة سياسية قوية وحاسمة”.
كما عبر عن ذلك في تقديمه لكتاب الدكتور صلاح عوض عمر (الدولة التنموية الديمقراطية) الصادر عن (مشروع الفكر الديمقراطي). وأظهر أنه ينحاز في رؤيته التنموية الديمقراطية إلى ما يسميه (المزج الواعي)، وهو الخلط المناسب بين نموذجي اقتصاد السوق والدولة، والقطاع الخاص والدولة، وهنا يمكن أن تتذكر تجربة كورية الجنوبية التي يعجب بها الدكتور حمدوك.
وبرغم شعبيته الطاغية في الأوساط الشعبية والسياسية إلا أن حمدوك يواجه في أوساط سياسية ضيقة بمنقصة مفادها أنه لم يكن ثورياً بالقدر الذي يؤهله ليكون الرئيس المناسب الذي يعبِّر عن ثورة شبابية استمرت لأكثر من ثمانية شهور. ودون التورط في القول إنه كان يستبق الأحداث ويتنبأ بشيء، لكن حمدوك صرح في تداولات المناقشة البحثية (ديسمبر 2017) برأي إيجابي في الشباب، وقال: “هناك أهمية قصوى لشريحة الشباب في قيادة الدولة.. وقد سردت في منبر شبيه قصة ديفيد أوين، عضو مجلس اللوردات البريطاني حالياً، والذي كان أصغر رئيس وزير خارجية في السبعينيات. سألته إحدى المحاورات عن السياسة والشباب، فقال: كنت أصغر وزير خارجية، وكانت لديّ الجرأة على اتخاذ القرارات الصعبة، حيث كانت الحياة بالنسبة لي وقتها واضحة وجلية، أبيض وأسود. كنت اتخذ القرار بحسم وأمضي لما بعده من الشؤون، أما أنا عجوز في السبعين ففي المنطقة الرمادية، أنظر لكل جوانب الموضوع، يمينا ويسارا، وفي نهاية الأمر أظل قابعاً في المنطقة الرمادية، وبلا قرار متخذ في النهاية. لذلك من الأفضل أن يقودنا الشباب، أن يكافحوا ويتعثروا ويخطئوا، عوضا عن أن تؤول الأمور إلينا فنظل في المنطقة الرمادية”.
وفي كل الأحوال، يذكِّر حمدوك بنوع من السياسيين التنفيذيين المنحدرين من خلفيات تكنوقراطية، أمثال الفلسطيني سلام فياض، رئيس مجلس الوزراء في السلطة الوطنية الفلسطينية (2007–2013) الذي درس الاقتصاد في جامعة تكساس وعمل في البنك الدولي، ثم جاء إلى بلاده ليرافق الناشطة في مجال الدفاع عن الحقوق المدنية حنان عشراوي ويؤسسا معا تيار (الطريق الثالث) ويخوضا به الانتخابات الفلسطينية (2006) لتحدي فتح وحماس، وذلك قبل أن يفشل في الانتخابات ويعينه الرئيس محمود عباس رئيساً لمجلس الوزراء بصلاحيات واسعة. وقد امتدحه وقتها الكاتب توماس فريدمان وقال إن “الظاهرة الفياضية نموذج يستحق المحاكاة في المنطقة العربية”.
في عدة مناسبات، لا يكف حمدوك من الإشادة بالتجربة الكورية الجنوبية باعتبارها الدولة النموذج التي “تمنح الإلهام حقا” في مسار تطبيق مفهوم ومعنى الدولة التنموية الديمقراطية، كما ذكر في مقدمة كتاب صلاح عوض المار ذكره، أو أنها “مثار افتتانه” على حد تعبيره في المناقشة البحثية المنشورة في مجلة الحداثة السودانية؛ إذ أن كورية التي كانت تشبه البلدان الأفريقية من حيث “تفشي الفقر وانخفاض مستويات التنمية البشرية” استطاعت أن “تسجل معدلات نمو مذهلة على نحو مستدام”؛ لأن قادتها ركزوا على “تعزيز مناخ يتسم بالسلام والأمن وجودة المؤسسات والحوكمة الرشيدة… وعبروا عن التزام مثالي بدعم النمو المصحوب بالإنصاف”.