طلعت علينا وكالات الأنباء والصحف ووسائط التواصل الإجتماعي أمس الخميس بالأخبار الأكيدة حول تسمية رئيس وزراء الحكومة الإنتقالية وأسماء قادة الجهاز العدلي – وذاك هو العمود الفقري لقيام الدولة المدنية، دولة المواطنة والمساواة التي قامت بسببها في السودان واحدة من أميز وأكبر الثورات الحديثة في العالم، ثورة إتخذت السلمية شعاراً ورفعت مبدأ: الحرية والسلام والعدالة. حيث أبلى فيها شعب السودان ثلاثين سنة لتندلع بانفجارها الأخير في ١٩ ديسمبر ٢٠١٨، وحيث واجه شبابها وشاباتها وأطفالها الرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع ٨ أشهر حسوما قبل أن تصل محطتها الأخيرة والمنتظر الإعلان عن تتويج أمتنا بحصيلتها المباركة بدءً بالسبت الموافق ١٧ أغسطس الجاري.
أكتب هذا المقال إبراءً لذمتي ككاتب وكناشط حقوق إنسان، إضافة إلى إيماني كمواطن سوداني بأن بلدي الذي أعطاني كل شيء ينتظر أن أقف إلى جانب حق مواطنيه وشمس الدولة المدنية – دولة المساواة في الحقوق والواجبات – تؤذن بالشروق. كما إنني أكتب هذا المقال ولما يتم الإعلان رسمياً عن كامل من سوف توكل إليهم مهمة تسيير دفة البلاد إبان الفترة الإنتقالية، المقرر أن تكون ثلاث سنوات وبضعة أشهر. ولعل الوقت يجري بسرعة لن يتسنى معها للجان قوى الحرية والتغيير أن تتدارك ما نبهت إليه من قبل وما أود إعادة التنبيه له ولو في آخر الدقائق لاتخاذ القرار الشجاع.
هذا السودان ليس وطناً للمسلمين وحدهم حتى توزعوا فيه حقائب إدارته يا حرية ويا تغيير دون إسناد بعض مهامه لمن هم غير المسلمين – وبالتحديد الطائفة المسيحية التي عانت من أسلمة السودان (المزعومة) طوال ثلاثين سنة. لقد لقي الإخوة الأقباط بالتحديد من العنت ما لاقوا إبان دولة الإخوان المسلمين التي لم تراع قول الله تعالى في محكم تنزيله: (لا ينهاكمُ اللهُ عن الذين لم يقاتلوكمْ في الدينِ ولم يخرجوكم من ديارِكم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم ، إن اللهَ يحبُّ المقسطينْ* إنما ينهاكم اللهُ عن الذين قاتلوكم في الدينِ وأخرجوكم من ديارِكم وظاهروا على إخراجِكم أن تولَّوهم، ومن يتولَّهم فأولئك هم الظالمون) سورة الممتحنة، الآيتان ٨ و٩.
ويمكن قراءة الآيتين بالمعطيين التاريخي والعصري.. وأعني بالعصري المشاركة في الحقوق والواجبات كما توصي به نصوص دولة المواطنة.
لقد دمعت أعين الكثيرين أيام الإعتصام التي لن تمحي من ذاكرتنا، والطائفة المسيحية السودانية تزوّد المعتصمين من شباب السودان المسلمين في شهر الصوم، بجوالات السكر وصناديق الشاي ومواد تموينية أخرى تأكيداً لروح التسامح التي دعت إليها كل ديانات أبينا إبراهيم عليه السلام. بل وقف شباب من المسيحيين السودانيين في ساحة الإعتصام ذات يوم جمعة صيفي حار وهم يظلون بقطعة قماش إمام المصلين أثناء الخطبة والصلاة. وهم طبعاً غير مجبورين على ذلك.. لكنها تربية ديانة السيد المسيح عليه وعلى أمه السلام. وهي ما دعا إليها دين الإسلام إذ قال الله تعالي في القرآن الكريم: (ولا تجادلوا أهلَ الكتابِ إلّا بالتي هي أحسنُ، إلّا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنّا بالذي أُنزِلَ إلينا وأنزل إليكم، وإلهكُم وإلهُنا واحدٌ ونحنُ له مسلمونْ) سورة العنكبوت ، الآية٤٦.
أختم بالنصح للإخوة في الحرية والتغييربالقول: إن تبعات الدولة المدنية قاسية ومرهقة. نعرف أنكم قمتم بالكثير مما هو مطلوب منكم. ولكننا نعرف أنكم قصرتم أيضاً في البعض. ونحن لا ننتظر منكم الكمال، فالكمال لله وحده. بيد أننا ننتظر منكم ما هو متاح. لقد عانت الطائفة المسيحية في بلانا – وهي طائفة لعبت دورها المقدر في استقلال بلادنا وفي التنمية وفي المكون الثقافي السوداني- عانت ما عانت. وقد لاقت ظلماً لا حدود له طيلة الثلاثين سنة من حكم الإسلامويين البائد. واليوم يتطلعون مثل كل مواطني السودان بشتى انتماءاتهم وإثنياتهم وعقائدهم إلى الشراكة الحق في عقد اجتماعي إسمه الوطن. أرجو ولو في الساعة الخامسة والعشرين أن تنتصروا لشريحة من السودانيين من حقهم أن يكون لهم تمثيلهم الرمزي في أركان الحكم الإنتقالي: المجلس السيادي ومجلس الوزراء والسلك القضائي. تداركوا هذا الأمر من فضلكم قبل فوات الأوان.
يكفي يا قوى الحرية والتغيير أن بعضاُ من قادة الدول الذين سيلبون دعوتكم للإحتفاء بانطلاق قاطرة الدولة المدنية ومن بينهم أمين عام الأمم المتحدة، وممثل دول الإتحاد الأوروبي وبعض القادة الأفارقة ليسوا بالضرورة مسلمين. لكنهم قادمون ليشاركوكم فرحتكم بميلاد دولة المواطنة التي تعني أن الدين لله والوطن للجميع. أرجو كما قلت تدارك هذا الأمر ولو في الساعة الخامسة والعشرين!
فضيلي جمّاع
لندن: ١٦ أغسطس ٢٠١٩