مدينة تلودي التي تنام حالمة بغد مشرق وتصحو على هديل القماري فوق أشجار النيم و الصباغ و الجميز.
اختارها الإنجليز عاصمة لجبال النوبة لما تمتاز به من كنوز تتمثل في أرضها المعطاءة و طبيعتها الخلابة التي ترد الروح وتبعث الأمل، و تشرح الصدر، وتدخل في القلوب الحزينة الفرحة.
أتناول هنا منطقة التوج كنموذج فقط عن ملامح تلودي الفريدة التي يعز على أهل الفن في رسمها على لوحة واحدة؛لأنها تأخذك عنوة في سياحة عبر وديان و قيزان و جبال و تلال.
التوج شرق تلودي هو ارض سهلية طينية هشة خصبة اختارها الإنجليز إبان الاستعمار كمزرعة ضخمة لإنتاج القطن.
سجن تلودي يستضيف الأبطال
سجن تلودي هو ذلك السجن الذي استضاف ثوار ابو رفاس وهو اليوزباشي سليم أبو رفاس المصري الحنسية، الذي كرر استفزازه لاهالي منطقة تلودي، إذ درج ان يختار اجمل الفتيات حينما تكون هنالك مناسبة فرح وفي ثناء رقصة النقارة.
وحينما طفح الكيل تجمع الأهالي، دبروا مكيدة، فاعلنوا مناسبة فرح وندر كبير للانتقام من هذا المأمور الفاسق، فجاء مزهواً بحرسه، وعندما أشار لإحدي الحسان ان تكون عروسة ليلته مزقت الحراب والسيوف بدلته الأنيقة.
لقد انتقموا منه وقتلوه شر مقتل رغم حراسته و سلاحة الناري، وقبره لا زال في منطقة حي الرديف جنوب تلودي،
فقامت الحكومة الاستعمارية بإعدام أعداد غفيرة منهم، و ايداع كل من كان حاضراً ولم يشترك في القتل الى هذا السجن.
كما استضاف هذا السجن ود توينجة وقصته المعروفة، وهو ناظر عموم قبائل لفوفا في منطقة الليري.
حينما جمع أهله في سنة شهدت كساداً في المحصول، و كان لزاماً عليهم أن يدفعوا الضريبة (الطلبة). جمعهم و طلب منهم ان يحتفظوا بما حصدوه لإعاشتهم وان يقولوا للمأمور حين حضوره في الدرت انهم جمعوها، وأعطوها للناظر ود توينجة و أكلها. وأنه سيتحمل عنهم عبء السجن حتى العام المقبل إن صلح المحصول فدوه و أخرجوه من السجن.
و قد كان جاء المأمور بأورطته المدججة بالبنادق، واقتادوا ود توينجة مقيداً بالسلاسل الى سجن تلودي، فأنشدت حكامة الدرملي أغنيتها المشهورة التي ذاع صيتها و تغنى بها فنانو الموسيقي و المسرح باختزال دون دراية بمعانيها فضلا عن تهجين كلماتها:
” الجنزير التقيل البقله ياتو
البوقد ناره يدفاها هو
الول ابو درجات المؤصل ماك نفو
فوق الحار الزول بلقا اخوه
و الجنزير التقيل هي السلاسل التي قيد بها ود توينجة الى السجن.
“دا بوديك التوج”
نعود لمزرعة التوج التي يقوم بنظافتها وحرثها و حصادها مساجين سجن تلودي. فكل مساجينه محكوم عليهم بالأعمال الشاقة، و التوج في مشقته هو توأم الموت، إذ يكثر فيه البعوض و العقارب و الثعابين، فإن لم يمت السجين بالملاريا مات بقرصة عقرب او لدغة ثعبان، ومن سلم منهما كان نصيبه من كل هذا المجهود إزار و رداء من الدمورية المنسوجة من قطن مزرعة التوج انتاج اياديهم صنع في بريطانيا.
لذلك كان مضرب المثل لمن أراد ان يثني احدا عن ارتكاب جرم “دا بوديك التوج”.
وكانت حداثة المثل في هذه الأيام في الوتساب ان الشربوت بودي التوج..
و هذه المناظر الخلابة تجد فيها جبل تلودي ( أبو أبرة جبل النوة).. أبرة بفتح الألف و الباء، وتعني المسلة الكبيرة التي تحاكي عن فتحة على طرومة هذا الجبل او انها منخر الثور المزموم.