بعد الإطاحة بحكم جعفر نميري في 1985 بانتفاضة شعبية رائعة، حلمت مثل غيري بحكم ديمقراطي يحفظ كرامة المواطن السوداني، ويوفر له العيش الكريم، فإذا بقوى الظلام والظلم تجثم على صدورنا في عام 1989 وتسوم شعبنا سوء العذاب، وتمرغ كرامتنا في التراب تحت قيادة مجرم قتل مئات الآلاف وشرد الملايين لضمان استمراره في الحكم، وبعد ان باع كل شيء ذي قيمة في بلادنا بتراب الفلوس، بما في ذلك تراب الوطن، الذي لم يكن يقيم له وزنا، حمل قرعته وطاف بدول الجوار مستجديا الصدقات، ليضع الملايين تحت مخدته، ويوزع بعضا منها على بقية أفراد عصابته العائلية، وكلاب حراسته والطبالين من شيوخ السلاطين والصحفيين
ثم هب شباب بلادي وقدموا لي الهدية التي ظللت أحلم بها طوال الثلاثين سنة الماضية، وهأنذا أرى الرئيس التعيس عمر البشير يقف ذليلا منكسرا في قفص حديدي، بعد ان كان يشخر وينتر فوق رؤوسنا، ويرقص على أجداث موتانا في دارفور والنيل الأزق وجبال النوبة وشرق السودان وكجبار، وكأن دماء أكثر من مليون مواطن من جنوب السودان لم تكن كافية لإشباع ظمئه للدماء
بينما قوى الحرية والتغيير تمارس التخبط وهي تحاول اختيار ممثليها في مجلس السيادة، جلست أراجع أرشيف الثورة لساعات طويلة متصلة، وسعدت بأنني أختزن مئات مقاطع الفيديو وآلاف الصور للملحمة النضالية الباهرة الظافرة، وأحسست بالفخر. الفخر بالانتماء لهذا الشعب العظيم الملهم، الذي لم يخامرني الشك قط في أنه سيطيح بالطاغية، فقد كنت دائم الإيمان بالشعب حبيبي وأبي/ وبأبناء بلادي الشرفاء/ الذين اقتحموا النارَ فصاروا بيِد الشَعبِ مَشاعِل/ وبأبناءِ بلادي الشُهداء/ الذين احتقَروا الموتَ/ فعاشوا أبدا.
طريق الثورة محفوف بالمخاطر والمزالق والعثرات، ولكن يقظة شعب بلادي وصلابة عود شباب بلادي هي الضمان بأن ثورة ديسمبر ستحقق غاياتها، وقوى التغيير تتخبط في أمور كثيرة لأن معظم أعضائها بلا خبرة سياسية، بعد ان عاشوا ثلاثين عاما حسوما كان فيها أي نشاط فكري او ثقافي او سياسي جريمة، والمجلس العسكري أيضا بلا خبرة ومارس التخبط الذي كلفنا الأرواح العزيزة، ولكني على ثقة بأن سلطتنا المدنية ستقوم وتنطلق اعتبارا من اول سبتمبر المقبل وقباطنتها يحملون معاول هدم دولة الاجرام البشيرية بيد ومسطرين البناء بيد.
فشكرا للثوار، والشهداء منهم على وجه الخصوص، الذي جعلوا ذلك ممكنا، شكرا لهم لأنهم وفي غضون سبعة أشهر فجروا ينابيع الابداع شعراً وموسيقى وتشكيلاً، وصاغوا بذلك الأسطر الأولى في كتاب السودان الجديد، فكونوا يا ثوار بلادي فخورين بما تم إنجازه وتذكروا دائما الملاحم النضالية المذهلة التي خضتموها في زمن كان فيه ترديد النشيد الوطني وحمل علم البلاد جريمة، من غيركم ظل يغسل رئته الملوثة بالغاز الخانق ويمسح جراحه ويبكي الرفاق الذي صعدوا الى السماء ثم يواصل الغناء للوطن، وكلما زاد الزبانية جرعات القمع والعنف زدتم انتم عنفوان الثورة، حتى أتى العالم كله يوم السبت 17 أغسطس ليشهد على أحقيتكم بناء المستقبل كما تشتهون.
أشكركم يا ثوار لأنني شهدت اليوم الذي طالما اشتهيته، اشكركم على الزاد الجميل الذي سأعيش عليه لما تبقى من رحلة العمر، أشكركم على “الهدية” وأعدكم بأنني سأسعد بأن أكون في خدمتكم بالشكل الذي تحددونه، وأتمنى أن تنتقلوا مثلي من التشاؤم إلى “التشاؤل” ثم التفاؤل. لا تبتئسوا لأن قيادة الثورة بدت مهلهلة خلال الأيام القليلة الماضية فالعثرة تصلح المشية وباكر أحلى، ورددوا مع محمد المكي ابراهيم:
ولتكن عاليةً خفاقة/ رايةُ ديسمبرَ فينا/ ولتَعِش ذِكراهُ في أعماقِنا/ حُبَّاً وشَوقاً وحَنينا/ وليَكُن مُنطلَقَ الشَّعبِ/ بإيمانٍ جديدٍ بالفداء/ وبإيمانٍ جديدٍ بالوطن.