أكثر ما نحتاج إليه في السودان للمرحلة المقبلة هو
الأمل، وما أدلى به رئيس وزراء الثورة الدكتور عبدالله حمدوك في مطار الخرطوم ثم
عقب أدائه اليمين الدستورية يبعث على الأمل والتفاؤل.
كانت كلماته مقتضبة لكنها مكثفة، ومثلت خريطة طريق
لوزارته التي تنتظرها التحديات، ومتاريس خفافيش الظلام، وبعض من لا يعجبهم العجب
ولا الصيام في رجب.
أكد الرجل أن برنامجه هو شعار الثورة “حرية..
سلام.. وعدالة”، وهذا الشعار بالطبع إذا تنزل على أرض الواقع يعني فتحاً
عظيماً، فالعطاء والإبداع لا يمكن وجودهما إلا بالحرية التي تفجر الطاقات،
والتنمية لا يمكن نيلها إلا بالسلام والاستقرار، والطمأنينة والإحساس بالانتماء
والمشاعر الإنسانية النبيلة لا تزدهر إلا في مجتمع تحفه العدالة، ويشعر فيه كل
الناس بأنهم سواسية بلا أي تمييز.
وتأكيده بأن السلام أولوية حكومته يعني إدراكه بأهمية
أن يجتمع شمل أهل السودان، من دون هوامش ومراكز، ليسهموا جميعاً في نهضة بلدهم.
كما أن حديثه عن أن الإنتاج هو أساس برنامجه
الاقتصادي، فهذا يعني لا تضخم، أو أسواق رمادية وسوداء، ولا مجال للعطالة
والسماسرة والمستهبلين أن يعيشوا على قفا الشعب المسكين، وهذا ما يجعل دولة
الإعانات والهبات شيئاً من الماضي.
ويتطلب ذلك أن نمضي كلنا إلى العمل المنتج الذي يسهم
في إنعاش اقتصادنا، وتوجيه التعليم ليكون عنصراً رئيساً في إيجاد الطاقات البشرية
القادرة على العطاء، وفق رؤية علمية ممنهجة تقضي على دكاكين التعليم المتمثلة في
الجامعات والمعاهد التي تقوم على أساس الربح المادي، من دون رابط بينها وبين حاجة
سوق العمل، ليتكدس الخريجون، ممثلين عبئاً إضافياً، بدلاً من أن يتحولوا إلى طاقات
منتجة تمثل مصدراً من مصادرة قوة البلد، وأساساً لنهضته.
وتناول حمدوك نماذج اقتصادية لدول استطاعت أن تحقق
قفزات هائلة مثل كوريا الجنوبية، وهي لا تملك ما يملكه السودان من ثروات هائلة.
ولعل دعوته إلى مشروع وطني يلتف حوله الجميع ضرورة
ملحة؛ لأن نهوض الأمم لا تكون إلا بوحدة الهدف، وتوجيه الطاقات نحوه، وهذا ما يخفف
من المشاكسات السياسية التي تصل عندنا إلى حد الخشونة المفضية إلى أهدار الطاقات
في التربص، والنيل من بعضنا بعضاً.
وكان تأكيده بأن نفكر في كيف يُحكم السودان تاركين للشعب العظيم تحديد من يحكمه باختياره الحر روشتة للأداء السياسي، الذي ينبغي أن يكون للأحزاب، التي يجب أن نذكر لها بكل فخر واعتزاز توافقها على إعلان الحرية والتغيير، الذي كان رأس الرمح فيما تحقق من مكاسب وطنية.
وهذا التوافق هو ما نحتاج إليه لدعم هذه الحكومة التي
تمثل نبض الشارع، والتي يجب أن نمنحها الدعم والثقة بكل ما نستطيع، متيقنين بأنها
لا تملك عصا سحرية لتغيير واقعنا الذي نعترف بأنه مرير، وفيه من المنغصات ما يسد
النفس.
وكان الرجل رائعاً حين أكد أنه رئيس وزراء السودان
كله، مع أن قوى الحرية والتغيير هي التي رشحته، وهذا يؤسس لمجتمع متسامح يتيح
الفرصة للجميع، ويؤسس دولة المواطنة بلا أي تمييز، مع العلم بأن هناك فارقاً بين
التسامح والتهاون، حتى لا نخلط الأوراق، وهذا الحديث دعوة لشرفاء الوطن من كل
المشارب للانهماك في العمل من أجل الوطن، ولا شيء غيره.
كما أن صرامته في اختيار الوزراء بغض النظر عن ترشيحات
قوى الحرية والتغيير تبشر بتطبيق معايير الكفاءة والمهنية بكل دقة، وهذا ما نحتاج
إليه في كل ميادين العمل.
وكان حديثه حول علاقات البلاد الخارجية مطمئناً لكل
الجوار من الدول الشقيقة، إلى جانب الدول الأجنبية، ولا شك أنه بحكم عمله في
المنظمات الدولية خبير بها، وهذا ما يدعو إلى التفاؤل بأن يعود السودان لأداء دوره
الريادي في محيطيه القاري والعربي، ومن ثم في خوض غمار السياسة الدولية بخطى واثقة
تعيد للسودانيين ثقتهم واعتزازهم بوطنهم، وليعود لجواز السفر السوداني هيبته
ومكانته.
إن إعلامنا اليوم مطالب بأداء دوره في نشر الحقائق
بدلاً من الأكاذيب والتقارير الرسمية ونشرات العلاقات العامة، وعليه أن يكون أداة
لبث الوعي، والارتقاء إلى مستوى الشارع الذي أثبت أنه متقدم على نخبته.
وقد بدأ حمدوك حديثه بأهمية أن يكون الإعلام عوناً له
في تحقيق برنامجه، وهذا ما يلقي بالمسؤولية عليه (أي الإعلام) في تفهم دقة
المرحلة، والتخلص من مكبلات الماضي، التي أبعدته من المهنية، وشوهت دوره، حتى فقد
ثقة الشعب.
ولعل ما بدا من تخبط في نقل التلفزيون السوداني أداء
حمدوك اليمين الدستورية، ثم ما تبعه من برنامج باهت، وأغانٍ وأناشيد موجهة بشكل واضح،
وإقصاء الأناشيد الوطنية المحفورة في أذهان الناس، والمرتبطة بالثورة وشعاراتها
الحقيقية، لعل ذلك كله يبرز أهمية إعادة صياغة الإعلام الرسمي، ليكون معبراً عن
الشارع ومواكباً له، حتى لا يتكدس بالموظفين الذين يؤدون أدواراً إعلامية ليسوا
أهل لها.
ونختم بحديث الرجل عن الشراكة بين المجلس السيادي
ومجلس الوزراء، وهي بلا شك مهمة، وتمثل حجر الزاوية في أداء إيجابي مثمر بروح
الفريق الواحد، وقد قلل من اللغط الذي دار حول اختيار ممثلي قوى الحرية والتغيير
في المجلس، ورآه مرانا على الديمقراطية، التي لا تستورد، ولكنها تأتي بالممارسة.
دعونا نتفاءل بفتح صفحة جديدة في مسيرتنا الوطنية تليق
بشعب معلم وثورة عظيمة وأرواح غالية كانت مهراً عزيزاً من أجل وطن يمضي إلى
المستقبل بخطى راسخة في عالم متلاطم الأمواج.