دعونا نرسم صورة لواقع البيوت الأميركية وأحيائها في إطار سعينا للوقوف على وضع هذه البلاد المهمة من كثب.
وسأعكس نبض الحي الذي نقطنه مثالا المتموضع بين مطار سيتاك الدولي الذي تفوق الطائرات الرابضة فيه سيارات ميدان جاكسون والوسط التجاري لمدينة الزمردة الذي يزدهي بناطحات السحاب.
إذن ما الذي يسترعي انتباهي بخلفيتي القروية؟
في غرفتي الدولاب أمامي علي امتداد ضلع الجدار الذي يشكل خلفيته وبابه سحاب يحرك يمنة ويسرة ولا يأخذ سوى عرض نصف متر ما يعد اقتصادا في المساحة والتكلفة وكذا تصميم الأبواب والنوافذ من حيث سحبها.
فوق مواقد المطبخ جهاز ينتهي بمدخنة مهمته شفط الروائح وبث الإضاءة وإرسال صفارات إنذار لربة البيت في حالات كثافة الدخان واحتراق الملاح وفوران السائل المغلي وطفحه!
في الصالة لمبة الإضاءة في منتصف السقف ما يتيح التوزيع المتوازن للإضاءة ككل المواضع هنا ولا أعرف لماذا نضع لمباتنا الكهربية على ضلع في الجدار. ومفتاح النور شبيه بزنبرك الساعة بتحريكه دائريا يبدأ النور ضئيلا ثم يزيد توهجه حتى مداه بمعنى أنك تتحكم في مستوى الإضاءة المطلوب.
الماء لا ينقطع مطلقا مع الأنهار والبحيرات المتعددة والتقنية المتطورة وكذلك الكهرباء التي لم يحدث إظلام كامل لها إلا ١٩٣١ ليلة وفاة أشهر مخترعي البشرية العبقري الأيمركي أديسون الذي توصل لأكثر من ١٠٠٠ اختراع منها المصباح الكهربي والهاتف الذي سبق فيه جراهام بيل وسجله قبله.
ارى فوق منضدة بجانبي مجموعة من الكتب الإنجليزية أتينا بها من مكتبة عامة لنعيدها بعد شهر. وتيسيرا بل تشجيعا للقراءة لا يشترط إرجاعها للفرع الذي استعيرت منه يكفي إيداعها في أوعية معدة في أي فرع دون مقابلة مسؤول ليتولوا إجراء اللازم نحو تسلمهم من خلال الأرقام المطبوعة إلكترونيا.
.. لا أثر للذباب ولا البعوض الذي اخذت ما يفوق نصيبي من وخزاته في بلاد الحاج يوسف!
في حديقة البيت أشجار ظلية وثمرية وكلها مسجلة لدى السلطات ومرقمة على قطع معدنية مثبتة في كل منها. والويل لمن يجرؤ على قطع إحداها إلا بإذن ومعاينة حتى لو غرسها صاحب البيت فالغطاء النباتي خط أحمر. وأحيانا يضع بعضهم فواكه حدائق منازلهم في سلال بالخارج للمارة’ وبها شواية شبيهة بأفران الطبخ تعمل بالغاز وهي في معظم البيوت. وتذكرت معاناتنا مع الفحم والهبابة والهباب .. حليلنا!
أنوه إلى أنني لا أسرد تياها بنعمة خصنا الله بها على غرار ” شوفوني أنا مخطوبة ” بل لعكس الواقع هنا فما أعرضه حال سائر البيوت.
هنا ٣ براميل بألوان مختلفة للنفايات .. أحدها للتوالف والثاني لمخلفات الطعام والغذاء والأخير لمواد إعادة التدوير مثل الأوعية الزجاجية والكراتين. ومن لا يفرزها يغرم. وتسحب البراميل ذات العجلات لخارج البيت مرة في الأسبوع لتأخذها سيارات الصحة ولا مجال لتأخير. كل شيء بحساب. أما أنقاض البيوت الكثيرة فتؤخذ في سيارة شحن لمصنع مختص بإعادة التدوير وما لا يصلح يتلف هناك بطرائق صحية. ويحاسب صاحب البيت برسوم تقدر بالفارق بين قراءتي وزني دخول السيارة وخروجها.
المباني تنشأ دون لصقها بالسور الخارجي وبالتالي بيوت الجيران وهم من جذور شتى فخلفنا نيكاراجوي يرتبط بإريترية ويسارنا خواجية مسنة وهي الوحيدة التي تلطفت بزيارتنا في مبادرة نادرة، ويميننا شارع عام وأمامنا أسرة مكسيكية نتبادل التحية معهم من بعد وداخل حوشهم وخارجه نحو ١٠ سيارات وفي معظم المنازل أكثر من سيارة.
ويقيني أن سيارات شارعنا الجانبي تفوق تعدادا حمير حلتنا زمن المنتجين الرضي. وهكذا تعيش أمريكا تنوع الوحدة ووحدة التنوع دون تمييز وتمايز واستعلاء وهذا قبس من عظمتها.
تتكون فلل هذا الحي وكثير من الأحياء من ٣ طوابق أحدها تحت الأرض والسقف الأعلى يأخذ شكل سرج الجمل توقيا للمطر الحاضر دوما الذي ينصرف تلقائيا مهما عظم وما على السكان إلا الاستمتاع بحبيباته على الزجاج فلا برك ولا انهيارات.
البيوت عادة تسور بشبك معدني تغطيه نباتات زاحفة يسكنها النحل لأزهارها العبقة أحيانا وبعض الملاك يفضلونها دون سور فتظل مساحتهم براحا مفتوحا.
العرف هنا أن الميسورين يسكنون في بيوت بحيشان وحدائق فيما يلوذ محدودو الدخل بشقق العمارات عكس مفهومنا في السودان.
وتجري السلطات تصويرا جويا لكل الأحياء في فترات محددة ليكتشفوا عبرها إن كان هناك من تطاول على اللائحة وأضاف بناء أو قطع شجرة أو حتى هدم جزءا ولو صغيرا دون تصديق.
لا مكان للفوضى والإخلال! وإلا فالحزم ماثل ” بالقانون “.
.. الحين خرجت من البوابة الرئيسة وادير ظهري للأسفلت .. أمامي صفوف فلل على ضفتي الشارع الجانبي المسفلت المشجر على المدى وعلى البعد رابية خضراء ألمح فيها سيارات مسرعة متتابعة كحبات مسبحة.
يساري عند مدخل الشارع لوحة معدنية كبيرة بها صندوق بريد برقم لكل بيت في شارعنا فتأتي سيارات بالخطابات الرسمية والخاصة والطرود وتودعها يوميا’ علما أن الجهات الرسمية تعزز إرسالياتها بإشعارات للمتلقين على الجوالات.
وكلما أتناول البريد أردد مقطعا للفنان أحمد فرح الذي احتضنه إسماعيل حسن بديلا لوردي خلال خصامهما:
البريدو مالو اتأخر بريدو
للشاعر الملهم حسن الزبير.
.. أمام كل بيت موقع مخصص لسيارات المطافئ ممنوع الوقوف فيه لغيرها. وتصدر إدارة الدفاع المدني نشرة دورية فصلية توعوية توزع مجانا بالبريد لكل البيوت.
.. مسموح لكل أسرة بتربية ٥ من أي حيوانات منزلية أليفة والشائع هنا اقتناء الكلاب التي تراوح حجومها بين الأرنب الضئيل والخروف المكين فقلما يخلو بيت من كلب مدلل يؤنس الوحيد ويشارك الأسر. وللكلاب والقطط في المجمعات التجارية الكبرى أقسام خاصة بها تكتظ بمأكولاتها ومشروباتها وأدوية تطبيبها وكسوتها وحبال اقتيادها وإكسسواراتها. ويخرج بصحبة الكلاب للتنزه كثيرون بل يخرج بها من ينزهها بأجر. وتشاركها القطط بدرجة أدنى.
أما لو كانت ربة البيت سودانية هنا فالأوفق لها إن كانت معنية تربية ٤ دجاجات وديك حسن الصوت!
أنور محمدين
سياتل