فور انتصار ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة في السودان، ارتفعت إلى عنان السماء شعارات ودعوات صادقة ونبيلة تنادي باستعادة الوحدة بين الشمال والجنوب، ولسان الحال يقول أن من تسبب في انفصال جنوب السودان هو نظام الإنقاذ المباد وليس نحن الثوار في الشمال، وما دمنا أطحنا بالإنقاذ، فلم لا يرجع الجنوب إلى حضن الوطن الواحد الموحد؟. سؤال، يضع الأمر في شكل معادلة، صحيح تعبر عن أصدق وأنبل أمنيات الثورة التي تسعى لاستعادة طبيعة الأشياء حيث الوحدة هي الأصل عند الشماليين والجنوبيين، ولكنها أيضا معادلة تبسيطية ومخلة جدا، قد تدفع بتلك الأمنيات النبيلة، قطعا دون قصد أو وعي، إلى خانة الاستعلاء وعدم مراعاة جذور المسألة التي دفعت شعب جنوب السودان لتبني خيار الانفصال وتأسيس دولته المستقلة.
والهدف السياسي والرئيسي لمجمل نضال الحركات والتنظيمات السياسية في الجنوب، ونضال الناشطين السياسيين السودانيين الجنوبيين، لم يكن مجرد اقتطاع مساحة من أرض الوطن الواحد والتمتع بسلطة حكمه وبثرواته، بقدر ما كان بحثا عن استحقاقات عادلة ومشروعة في وطن حر يسع الجميع بتعدد أعراقهم ودياناتهم وثقافاتهم. وأعتقد أن الكثيرين من أبناء الجنوب كانوا يتطلعون إلى يوم يكون فيه انتخاب جنوبي رئيسا لبلاد المليون ميل مربع حدثا عاديا ومقبولا لدى الآخرين أكثر من تطلعهم إلى يوم استقلالهم عن هذه البلاد. ولما استحال تحقيق التطلعات والأمنيات بالاصطدام مع نوايا وممارسات جماعة الانقاذ التي تصدت للحرب في الجنوب وأعطتها رخصة جهادية حولتها إلى محرقة لشباب الوطن من الشمال والجنوب، كان الخيار المر.
أعتقد من الصعوبة تجاهل حقيقة أن الدعوة لكي يمارس الجنوبيون حق تقرير المصير تخلقت بسبب فقدان الجنوب الثقة في الشمال نتيجة نقض العهود والمواثيق، ومحاولة فرض الأسلمة والتعريب على الجنوب وعدم إشراك الجنوبيين مشاركة حقيقية وفعالة في ممارسة السلطة وتوزيع الثروة. ولعل الفترة الانتقالية المتوافق عليها بعد وقف الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب إثر التوقيع على اتفاق السلام الشامل في العام 2005، والتي إمتدت لست سنوات يُستفتى الجنوبيون في نهايتها على حق تقرير المصير، كانت بمثابة الفرصة الأخيرة للسودانيين للاتفاق علي أسس جديدة لوحدة السودان، تؤكد للمواطن الجنوبي بأنه جزء من السودان الموحد، يمارس حقوقه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كغيره من المواطنين، وأن ثقافته وهويته يعبر عنها بحرية تامة علي قدم المساواة مع الثقافات والهويات الأخرى في البلاد.
من الصعوبة تجاهل حقيقة أن الدعوة لكي يمارس الجنوبيون حق تقرير المصير تخلقت بسبب فقدان الجنوب الثقة في الشمال نتيجة نقض العهود والمواثيق، ومحاولة فرض الأسلمة والتعريب على الجنوب
هذا هو المعني الحقيقي لمصطلح «الوحدة الطوعية القائمة على أسس جديدة». وكان طبيعيا، في غياب هذا المعنى وتلك الأسس الجديدة، أن يصوّت الجنوبيون، في الإستفتاء عام 2011، لخيار الإنفصال. وأعتقد، لا يمكن لأي منصف أن يلقي اللوم عليهم في خيارهم هذا، لأن مطلبهم الوحيد كان هو العدالة والمساواة.
أما النخب الشمالية، التي ظلت تستأثر بالسلطة والثروة وفي نفس الوقت تنادي بالوحدة، فتتحمل، هي ودعاة الانفصال وسط نخب القوميين الجنوبيين، المسؤولية الكاملة.
النخبة العربية الإسلامية في شمال السودان، ظلت ترى أن رسالتها المقدسة هي نشر الإسلام واللغة العربية وثقافتهما في جنوب السودان وفي العمق الإفريقي. ومن ناحيتي، بالتأكيد، لا أرى في هذا ما يعيب مادام أمر النشر يتم وفق مبادئ التفاعل والتلاقح والندية، ومادام المقدس هنا ليس الرسالة نفسها، بل هو الحفاظ على التنوع والتعدد. لكن يبدو أن الأمر وسط نخبنا في شمال السودان، وفي المنطقة العربية، لم يكن كذلك، حيث لم تراع الحساسية الملازمة له، وظل مفهوم «السودان الجسر» بين العروبة والأفريقانية وكأنه جسر مصمم على أساس شارع ذو اتجاه واحد، يسير فقط من الشمال إلى الجنوب، في تجاهل أو تنكر بيّن لمفهوم التعدد والتنوع، وكأن قبائل الجنوب هذه بلا ثقافة خاصة بها، أو بثقافة متدنية في أحسن الأحوال، وعليه فإن الوحدة يجب أن تتم بسوق هذه القبائل إلى اعتناق الإسلام وتعلم اللغة العربية، قسراً إذا اقتضى الأمر!
أعتقد بدل الحديث عن «استعادة الجنوب» بمدلولاته السالبة، نطرح في هذه المرحلة مطلب التوافق على شراكة إستراتيجية بين دولتين مستقلتين تتمتع كل منهما بالسيادة الوطنية الكاملة. هذه الشراكة، مثلها مثل الوحدة على أسس جديدة، يمليها صدى التاريخ ومؤشرات مجراه الموضوعي نحو المستقبل، كما تمليها حقائق الجوار والنضال المشترك في الحرب والسلم، قبل أن تكون مجرد حلم مثقفين رومانسيين أو صفقة بين تجار حرب أو حتى محاولة لرأب الصدع أو مجرد أوهام لسياسيين انتهازيين. وهي تتأسس على عدد من المقومات، منها: إلغاء تأشيرات الدخول وفتح الحدود بين البلدين للحراك السكاني والرعي، حرية الإقامة والملكية والعمل، الجنسية المزدوجة، حرية التجارة بدون جمارك، خاصة تجارة الشريط الحدودي الممتد لحوالي مليون وخمسمائة كيلومتر، سوق مشترك لتبادل السلع المنتجة محليا والخدمات دون رسوم أو شروط، استمرار تدفق بترول الجنوب عبر منشآت خط الأنابيب ومصافي التكرير الراسخة التأثيث في الشمال في إطار اتفاقية ترضي الطرفين، توفير المنفذ البحري في الشمال لصادرات وواردات الجنوب، الإشراف المشترك على إدارة مياه النيل، إلى غير ذلك من التدابير التي تشكل أساسا قويا للتكامل في كل المجالات بين الدولتين والتعايش السلمي بينهما. ولكن، من الضروري جدا التأكيد على أن كل تدابير الشراكة الإستراتيجية هذه من المستحيل أن تتحقق إذا لم تتم إشاعة الديمقراطية كاملة وتوسيع المشاركة السياسية وقومية أجهزة الدولة في البلدين. والشراكة الإستراتيجية يمكن أن تتطور إلى اتحاد هيكلي تكاملي بين البلدين، ثم، مستقبلا، تأسيس دولة اتحاد كونفدرالي بينهما. بهذا الفهم، وبدلا من دعوة «استعادة الجنوب» ذات المعاني الاستعلائية، سنعلي من إمكانية توحد البلدين مستقبلا في وطن واحد، وفق أسس جديدة جوهرها إعادة بناء الدولة السودانية نفسها وفق طموحات وهموم مكوناتها المتعددة والمتنوعة، عرقيا وثقافيا.
القدس العربي