تعدُّ ولاية النيل الأبيض من أغنى ولايات السودان، من ناحية وفرة الموارد الطبيعية، فهي تمتلك أرضاً خصبة جداً، وكميات وفيرة من مياه الأمطار الموسمية، إضافة إلى المياه الدائمة في نهر النيل الأبيض الذي يشقها من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، كما تمتلك ثروة حيوانية هائلة، وثروة سمكية غنية جداً.
وتضم أهم وأكبر مصانع ومشروعات إنتاج السكر في السودان، وبها صناعات ثقيلة لإنتاج الأسمنت والزيوت وغيرها، كما توجد مشروعات آلية ضخمة لإنتاج الذرة بالري المطري فى مناطق المقينص وأم عقارب وودكونة ومناطق الجبلين، وأخيرا تم اكتشاف البترول في جنوب غرب الولاية؛ وما تم استغلاله حتى الآن من موارد الولاية لا يتجاوز10% في أكثر التقديرات طموحا.
ولكن انتشار وباء الكوليرا في النيل الأبيض خلال الثلاثة أشهر الماضية، وانتقاله كالنار في الهشيم من قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى مدينة حتى وصل إلى العاصمة الخرطوم؛ دون أدنى تدخل من سلطة ولائية أو مركزية قد كشف عورة نظام الإنقاذ وفضح برنامجها السياسي الذي ظلت تسهر عليه منذ الانقلاب في يونيو 1989م، وربما قبل ذلك، وقبل أن يحتل تنظيم الإخوان المسلمين السودان، ويقيم دولة الإنقاذ، ولكنه برنامج أورث إنسان النيل الابيض الأمراض، والمزيد من الفقر، واتساع الفاقد التعليمي.
الحقيقة المؤكدة أن ولاية النيل الابيض قد شهدت أكبر تغيير للولاة في السودان بين ولايات السودان المختلفة، وقد تجاوز عدد الولاة العشرة؛ 8-% منهم من خارج الولاية، وكلهم أتوا إلى الولاية ببرنامج سياسي محدد وموحد الأهداف لم يحيد عنه أحد منهم؛ لم تكن هموم المواطن الأساسية ومشكلات الولاية الرئيسة هدفاً ضمن أهداف ذلك البرنامج السياسي بامتياز.
ولعل الدورة المدرسية التي أُقيمت بالولاية قبيل ظهور وباء الكوليرا، وكلفت الولاية 50 مليار جنيه سوداني (بالجديد)، جمعها السيد الوالي كاشا من عرق ودم مواطن الولاية المسكين، وقد أُقيمت من أجل تنفيذ ذلك البرنامج السياسي، وهو برنامج ليس لمواطن النيل الأبيض به أي علاقة، ولعل ما كلفته الدورة المدرسية إذا كان تم توجيهه لمعالجة مشكلات الولاية كان يمكن أن يوفر المياه الصحية، ويرمم المراكز الصحية، والمستشفيات بالولاية، ويوفر لها المعينات، والأجهزة، والقوى العاملة المؤهلة من أطباء وكوادر صحية مساعدة، ويحسن من صحة البيئة؛ هذا إن كان المواطن أصلا جزءاً من هموم الحكومة .
ولاية النيل الابيض غنية جداً، ولكن تم افقارها بسياسة مدروسة من قبل الانقاذ وتنظيمها، قصدت منها قهر المواطن لإجباره على تغيير ولائه التاريخ المعروف؛ ذلك الولاء الذى لم تزده سنوات الإنقاذ العجاف إلا ثباتاً.
وفى إطار هذه السياسة، فقد ظل النظام – وباستمرار- يفرض على الولاية ولاة من غير ابناء الولاية، حتى لا يتأثروا بأحوال الناس، ويظلوا شديدي الالتزام بإستراتيجية الإنقاذ الرامية إلى استغلال موارد الولاية؛ لمصلحة الحكومة المركزية، واستمرار إهمال احتياجات المواطن، وزيادته إفقاراً على فقره؛ وشواهد ذلك ماثلة في القتل المتعمد لمشروعات الاعاشة وغيرها من المشروعات الزراعية، التي مثلت لعقود طويلة عصب الحياة للمواطن، وأساس الاستقرار لأسرته، ومصدر الخدمات الأساسية.
وقد تجلى ذلك بوضوح كامل عندما تم منح أراضي النيل الأبيض على ضفتي النيل كمنحة لأحد شيوخ الإخوان، حيث تم تمليكه بوضع اليد كل أملاك مؤسسة النيل الأبيض الزراعية بمشروعاتها ووابوراتها ومؤسساتها الصناعية والمحالج وغيرها، فقد ملكت جميعها لشركة النيل الابيض القابضة في لمحة عين، وآلت إلى هذا الشيخ، الذي كان يمني نفسه أن يقيم عليها إمبراطورية زراعية يعمل من خلالها على تغيير كامل لإنسان النيل الابيض.
تغيير يجعله خاضعاً، وتحت رحمة أيديولوجيا الجبهة الإسلامية، وعاملاً ذليلاً تحت رحمتها ومنفذاً لبرامجها، ولكن إرادة الله كانت أكبر، ولطفه بإنسان النيل الأبيض كان أعظم من كيدهم، فقد باءت خططهم بالفشل، ولم يستطيع الشيخ تشغيل حتى مشروع واحد من مشروعات الاعاشة السبعة، وهرب ذليلاً يجرجر أذيال الخيبة بعد ان سرق وباع كل الصول الموروثة عن مؤسسة النيل الأبيض، ثم هرب، ولم يسأله أحد، ولم تطالبه الدولة حتى باسترجاع تلك الأصول. ويظهر ذلك أيضاً في التعدي المتواصل على أراضي الموطنين، ومواجهتهم بالقتل، إذا رفضوا قرارات الحكومة، أو حاولوا تثبيت حقوقهم الشرعية في أرض جدودهم الحرة؛ كما حدث في مناطق الأعوج، وقرية الغزالة، وجزيرة أم جر، وغيرها.
وواصلت الحكومة العمل الدؤوب على إنشاء مشروعات قومية لإنتاج السكر علي أراضي الولاية، وجعلت المواطن عاملاً ذليلاً في أرض أجداده، كما حدث في كنانة وعسلاية ومشروع سكر النيل الأبيض الجديد، وما سيحدث في مشروع قفا شرق أبا، ومشروع سكر مشكور، أو ما يسمى مشروع الفساد الذى لا زال يواجه باعتراضات وصمود كبير من المواطن، وصل إلى المحاكم، وإلى برلمان النظام، وإلى رئاسة الجمهورية، التي لم تفعل فيه شيئاً؛ ويقف خلفه متنفذون يحاولون شراء بعض الذمم وبالحديد والنار.
هناك أيضاً مشروع جنوب كوستى مسحت له المشروعات العامة القائمة، وانتزعت له أراضي المواطنين، ويشاع أنه يتبع إلى مسؤول كبير في شراكة مع عدد من المستثمرين المصريين.
ولاية النيل الأبيض في الأساس ولاية زراعية ورعوية ظلت تعاني الإهمال، وظل مواطنها في ظل هذا النظام يعاني الإهمال المقصود، الشيء الذي أدى الى تراجع الخدمات ثم انهيارها تماماً، وأدى إلى تحكم الثلاثي القاتل: الفقر، والجهل، والمرض، وانتهى الى هجرة المواطنين من القرى إلى مدن الولاية، أو إلى خارج الولاية، وخصوصاً إلى العاصمة. وتقاصرت الرقع الزراعية المستغلة، وانحسر الغطاء النباتي في الولاية خصوصاً في شمال الولاية وغربها، وأدى ذلك إلى ازدياد وتيرة التصحر، ومحاصرة الأراضي الزراعية، وازدياد معدلات الفقر.
كما أن غياب مشروعات الإعاشة أدى الى استمرار تدهور الخدمات الأساسية حتى في مناطق الحضر، وخصوصاً مياه الشرب النقي، والخدمات الصحية الأولية، ومن ثم انتشار الأوبئة الفتاكة؛ كالكوليرا، والسل الرئوي، والملاريا.
ولما كانت ولاية النيل الأبيض ولاية حدودية مع ولايتى جنوب كردفان ودولة الجنوب التي تشهد فوضى وعدم استقرار، فقد ظلت الولاية تستقبل الآلاف من النازحين من الإخوة الجنوبيين باستمرار دون ان تتولى الدولة المركزية الاهتمام اللازم بهم، وظلوا عبئاً ثقيلاً على المواطن، وعلى ميزانية الولاية، وإمكاناتها المحدودة، وهذا ما عرض الولاية للأمراض والأوبئة المنقولة.
في رأيي أن الحل لمشكلات النيل الأبيض لا يكمن في حلها بشكل جزئي، أو ترقيعي هنا وهناك بواسطة إمكانات محلية أو جهود ذاتية لأبناء المناطق بالولاية فقط، والتي ستبقى قاصرة، مهما كان حجمها، كما يحاول بعضهم، ويجتهد في سد ما خططت له أو عجزت عنه السلطة، وإنما في القيام بحملة شاملة كاملة لتحرير أراضي النيل الأبيض كافة من وضع اليد، والاستعمار الجديد الذي تقوده كوادر الجبهة المسماة إسلامية؛ وإعادة مؤسسة النيل الأبيض الزراعية، وإعادة رعاية المشروعات بشكل مباشر من الدولة، وبشكل يرضى عنه المواطن، لأن هذه الأرضي حكر وملك حر لأهلها، وهى مصدر معيشته الوحيد، إذاً فإن المطلوب ثورة عارمة يقف فيها أهل النيل الأبيض من أدناه إلى أقصاه كتفاً بكتف، وبأساً فوق بأس بكل تكويناتهم السياسية والمهنية والأهلية، وغيرها؛ لتحرير الأرض والإنسان، والوقوف سداً منيعاً أمام الأطماع التي تحمل كل البلاء والشقاء إلى إنسان النيل الأبيض، وتقصد حرمانه من العيش الكريم، وتستهدف انتماءه وكرامته وسرقة موارده ثم استغلاله عاملاً ذليلاً مأجوراً في أرضه. ويجب على أهل الولاية أن يقفوا سداً منيعاً أمام سياسة تصدير الولاة، والوزراء من خارج الولاية.
والأمل أن يشكل حزب الأمة رأس الرمح في مواجهة هذا التردد الخطير، والمدد لحياة مواطن بحر أبيض؛ وهو حزب أهل بحر أبيض، وعليه أن يقود التحرر من قبضة جشع انقلابي الجبهة، وإلا فإن العاقبة ستكون وخيمة ليس أقلها الموت الجماعي للمواطنين؛ بسبب الإهمال أو الهجرة والنزوح ومفارقة الأرض.
ولاية النيل الابيض ولاية غنية بأرضها الخصبة، ومياهها العذبة، وبإنسانها المتعلم والمؤهل، الذي أدار ويدير أنجح المشروعات والشركات داخل الوطن وخارجه، ولا يمكن وليس مقبولاً أن تظل معتمدة فقط على الهجرة الداخلية والخارجية، وتحويلات المغتربين من أبناء الولاية في ظل غياب تام للحكومة.
إنها دعوة إلى تحرير الأرض والإنسان.