امرأة فولاذية، سيدة عصامية وأخت تهش عند لقائها، عرفت بالكرم وحب الآخرين وفي أخذ كل الأمور التي تتعلق بسمعة السودان بجدية وحماس منقطعي النظير. يشهد لها الجميع بالحرفية وتحمل المسؤولية والأمانة التي أبت أن تحملها الجبال وحملتها دكتورة مريم الإنسانة تجاه أهلها ووطنها وأسرتها. قصة كفاحها مرجع ينبغي أن يعلم في المناهج وسيرتها من ذهب خالص دون مغالاة أو تفخيم. ومثلها كثير من مبدعي بلادي، فقد أوصد بنو كوز في نهاية عهد الرئيس جعفر نميري ومن بعدهم بنو الأنقاذ بالألفية المنصرمة أبواب العمل وطرق النجاحات من دونها – ومن دون كل كفئ من شبابنا – بيد أن ذلك القهر الذي عانته لم يزدها إلا عزيمة ولم يضف إلى توقدها إلا تصلدا فلم يبطرها شأن بني كوز أن تواصل الكد والدأب في بلاد الله الواسعة طارقة كل الأبواب من أجل حياة كريمة وعيشة عفيفة لها ولبنيها. فما لبثت حتى سلكت سراط تحث خطاها حثا، وتسري على طرق الصخور الموحشة وسبل اللهيب والرمضاء القاتلة وهي في وحدة ووحشة إلا من طفل وطفلة، تحملهما رافعة رأسها، سالكة بهما دهاليز المستحيلات ومتاهات الآهات، تخطو على الصخر بتؤدة وثبات حتى تنفلج لهذه الأم عن الحجر عيون الماء في شكل أناس أخذوا بيدها لتصل إلى بر الأمان. هذه السيدة الكريمة هي يا سادتي الدكتورة مريم خليل محمود، فهي علم ورمز شامخ بمدينة زيوريخ، ذلك ليس بين السودانيين فحسب بل بين أهل هذا البلد الأمين على حد سواء. لقد استطاعت هذه السيدة ورغم التشرد والغربة والابتعاد عن ارض الوطن ورغم الصعاب التي واجهتها، من حضارة مغايرة ولسان أعجمي ومجتمع مغلق – إلا لمن ارتاد آفاقه – الوصول إلى أعلى درجات النجاح فهي الآن من طبيبات الأسنان المصرح لهن بممارسة المهنة بسويسرا وقد تخصصت في مجال جراحة الفم وزراعة الأسنان.
ولمن لم يتسن له معرفة هذه الإنسانة الكريمة والأم الرؤوم فدكتورة مريم محمود خليل من بنات ود مدني، نشأت وترعرعت في ربوعها الحالمة في كنف أسرة سودانية يشاد لها بالعلم والمعرفة وبالوطنية وأصالة التاريخ. فوالدها الأستاذ خليل محمود المشهور باسم نوح كان من مثقفي الرعيل الأول ومن موظفي الدرجة العليا في مجال الأبحاث الزراعية الذي يُعنى بمشروع الجزيرة. والدتها السيدة فاطمة محمد جادين، بنت أحد أعيان المدينة، السيد محمد جادين ولقد وفقها الله في مسيرة التعليم بالمدارس الإرسالية آنذاك أن تنال حظا وافرا من المعرفة فتعلمت بحمد الله حتى بلغت مراحل عليا من التعليم وكانت تجيد اللغتين العربية والإنجليزية بطلاقة. لقد كانت هذه الأسرة، في سياق محيطها الاجتماعي، ثمرة يانعة وزهرة يافعة وبحر زاخر جاد للكل بالثمين والغالي فظل دار والد الدكتورة مفتوحا على مصراعية لطلاب العلم وأهل الذكر ورواد الفن والأدب لذلك كان السيد نوح معروفا بالكرم والشهامة في ود مدني.
كانت دكتورة مريم من المبرزات في الشهادة الثانوية وخرجت لها إدارة البعثات منحة دراسية لألمانيا بيد أن الأسرة توجست خيفة من بُعد الشُّقة الجغرافية والاجتماعية فما كان منها إلا أن دأبت في وجود مكان يليق بهذه الشابة النابغة فتقدمت بثبات للدراسة في جامعات العراق العريقة حيث اختيرت في جامعة بغداد بكلية طب الأسنان ومكثت بغرض الدراسة آنذاك مدة خمس سنوات وبعدها أن نالت درجة الإجازة في طب الأسنان عادت أدراجها إلى أرض الوطن من أجل البناء تدفعها عزيمتها القويمة وعنفوان الشباب البهيج. من ثمة تزوجت وعملت بمجال طب الأسنان لمدة سنتين وشاءت الظروف أن ترجع أدراجها حيث راودها الحنين إلى ما بين الرصافة والجسر وإلى بغداد، حاضرة الدولة العباسية، وإلى أماكن علمت العالم الكثير عن حضارة العرب. لكن مع مرور الزمن فقد فاق الحنين إلى بلاد النيل حنينها إلى فانتة علي بن الجهم بغداد حينما أنشد: عيون المها بين الرصافة والجسر – جلبن الهوى من حيث أدرى ولا أدري، ولكن ذات الشاعر العباسي كان يؤمن بمحبة الوطن وربوع الأهل والأحبة فقال في نفس القصيدة: أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن – سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ . لذلك عادت الدكتورة مريم مرّة أخرى إلى ارض الوطن لتشارك في بناء الصرح الذي ما زال يحلم به كل سودانية وسوداني.
فعندما رجعت إلى أرض الوطن كان إذذاك حكم الرئيس النميري، فاندمجت في سلك العمل بمستشفى الأسنان بالخرطوم ومن ثمّة بنقابة أطباء الأسنان كعضوة في المكتب التنفيذي الذي كان يمثل أطباء الأسنان قاطبة. الجدير بالذكر أن النقابة كانت إذذاك جزء لا يتجزء من نقابة الأطباء البشريين، حيث ملأتها الحياة بحيوات الشباب وأغدقت عليها أياد الربّ الكريم بحب الوطن وأهله الكرام. آثرت لي دكتورة مريم قائلة: خضنا صراع عنيف في داخل النقابة بعد أن جاء الإخوان المسلمين فيما بعد، لدرجة أنهم حلوا النقابة وفصلوا من فصلوا من وظائفهم بزريعة الصالح العام. تقول مسترسلة: شتتوا شملنا وفرقوا زمرتنا، لكننا لم نستسلم فرفعنا دعوة عليهم ضد القرارات التي اتخذت والتي قضت بحل النقابة وضد ممارسة التشتيت الممنهج لأفرادها في بقاع البلد المترامية. لقد كانت الدعوة ضد حسن الترابي ومجذوب الخليفة ولم تنته أفعالهم إلى هذا الحد، بل تعدت إلى الاعتقالات والمضايقات والتحقيقات والمطاردة، حتى أفلحوا في النتيجة التي أرادوها من البداية، أن نترك البلد ليستولوا هم على مقالد الحكم وعلينا نحن أن نجد في بلاد الله الواسعة خارج الوطن عيشة راضية كريمة لنا ولأولادنا دون مضايقات أو اضطهاد.
شاءت الأقدار أن أتت دكتورة مريم إلى سويسرا دون أن تخطط هي وأسرتها لذلك، وكان حلمها في الماضي أن تدرس في بلد أروبي، وها هي أقدامها تطأ بلاد النور والعلم والمعرفة التي طالما راودها الحنين إليها وإلى منابع المعارف الجزلة لتشبع عطشها وتروي طمأها من معين لا ينضب. كان ذلك في عام ١٩٩٢ وكان صغارها مهند وماندي في عمر يافعة وفي عز الطفولة فكان مهند قد بلغ الثالثة وماندي الثانية من العمر. وتحكي عن الرحلة أنها كانت شاقة لأبعد الدرجات. لقد كان عامل اللغة حاجزا بينها وبين المعرفة، لكنها وبعد أن اجتازت صعوبة اللغة الألمانية بجدارة تمكنت بمقدراتها العالية من الإلتحاق بجامعة زيورخ، بكلية طب الأسنان. كان ذلك هو الطريق الأوحد الذي يفتح الأبواب لأي أجنبي في أن يمارس المهنة ببلد كسويسرا فيا له من طريق شاق ورحلة مضنية لكن لكل من لا يعرفها فعزيمة دكتورة مريم تهز الجبال سيما عندما يتعلق الأمر بقضايا العلم والمعرفة وحرية التفكير. على كل جلست دكتورة مريم لأمتحان البكالريوس من جديد بعد مثابرة دامت بضع سنوات حتى نالت هذا الدبلوم كشهادة لممارسة المهنة شأنها شأن زملائها الأطباء بهذا البلد المتقدم. من ثمة حازت الدكتورة على الدبلوم وعملت في عيادة خاصة مع طبيب سويسري وضع فيها كل ثقته فحالفها النجاح وحب البشر لها إذ أنها كانت كما يقول المثل الأروبي بابوية أكثر من البابا، ذلك في الإتقان، التفاني في العمل، الحرفية والالتزام بالمواعيد واحترام انسانية البشر دون تفرقة بينهم. وبعد كل هذه النجاحات تمكنت دكتورة مريم من فتح عيادتها الخاصة بنواحي مدينة زيورخ ولها الآن من المساعدات الطبيات ثلاث يعنها في العمل وفي إدارة العيادة. بعد ثلاث سنوات من افتتاح العيادة الجديدة قررت دكتورة مريم أن تتخصص في مجال الفك وزراعة الأسنان وكان كذلك. فذهبت إلى النمسا لتتخصص في هذا المجال بجامعة قرنس. وبعد التخصص واصلت العمل بعيادتها الخاصة والآن صارت دكتورة مريم السودانية، طبيبة الأسنان قبلة للمرضى سيما في مجال جراحة الاسنان. أوسع الله لها في نعمه فهي تسكن في بيتها الخاص في أعالي جبال زيورخ، بين الزهور والورد وخضرة الطبيعة الساحرة ومنزلها أيضا قبلة لأهل السودان وأهل العلم من بني سويسرا. فدكتورة مريم كنداكة ناشطة في كل ما يخص تحرير السودان من براثن الأنقاذ ولقد لعبت دورا هاما مع رفاقها بمدينة زيورخ في ايصال رسالة الثورة السودانية داخل وخارج سويسرا. فكانت مع آخرين موتور ومحرك لهذا الحراك الشاق أثناء قيام الثورة. وعدا ذلك فهي تحتفي في سياق جمعية الثقافة السودانية السويسرية بكل فنان ومبدع وكاتب يأتي من بلادنا لينزل ضيفا عليها وتتيح له الفرصة مع الناشطين بسويسرا لأداء الواجب والتعريف بثقافتنا وحضارتنا.
إن البذور التي زرعتها هذه المرأة الصنديدة في تعليم أبنائها قد أتت أكلها اليوم فابنها مهند أبو شوك هو طبيب أخصائي باطنية بمستشفى زيوريخ وله دبلومات تخصصية عديدة منها زمالة أطباء سويسرا وآخرها دبلوم الأمراض الاستوائية، وبنتها ماندي تخرجت من جامعة لوتسيرن في قسم علم الاجتماع وتعمل الآن كباحثة اجتماعية وتحضر في درجة الماجستير في مجال حقوق الإنسان.
تقول في اختتام المقابلة: لا زلنا عايشين بسويسرا ولكننا مهمومين بالسودان وشايلين بلدنا بدواخلنا ونتمنى أن نعود يوما ما إلى بلدنا السودان لنشارك في مسيرة البناء.
Mohamed@Badawi.de