هذا ليس إعلام ثورة مجيدة بحجم ثورة سبتمبر الباذخة .. القنوات الفضائية السودانية تغط في نوم عميق تنظر إليها فتجدها في وادٍ.. والثورة وأحلام الناس في وادٍ آخر.. ووادي القنوات (غير ذي زرع) انه مفازة وصحراء جرداء وبيد وقفر سبسب تعوي فيه الذئاب وسراب بلقع (يحسبه الظمآن ماء) حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.. ووجد فيه أناس مستروحين وضيوفهم يسندون ظهورهم ويقولون كلمة كلمتين في الفراغ العريض، ومقدمو برامجه يتنقلون من (لعثمة إلى تأتأة.). ثم يقطعون الحديث بأغنية لا هي في العير ولا النفير.. فأهازيج الثورة محرّمة وشداة الثورة ممنوعون من الظهور.. والحلقة مفقودة بين إدارة القنوات (في الطوابق العليا) وبين المذيعين والبرامجيين الذين يظهرون على (الشاشة الغشّاشة)..!
تعرف مما يجري تقديمه الحيرة البالغة و(العجز البليغ) في السياسة الإعلامية للقنوات تجاه الثورة… أنها تردد بعض المحفوظات والاكلشيهات الباهتة عن السيرة الذاتية للمدنيين والعسكريين.. ولكن مثل خطاب الحرية والتغيير ذي (الرسائل الخمسة عشر) لا يجد تحليلاً ولا استنطاقاً ولا مراجعة ولا مناقشة أو حتى نقداً؛ مع إنه خطاب منظومة بيدها السلطة التنفيذية، وسيكون بمثابة برنامج لحكم البلاد في الفترة الانتقالية، وقد استعرض مجالات الاقتصاد والعلاقات الخارجية والخدمة المدنية والحرب والسلام والتنمية والقضاء والتشريع وأدوار الحكومة والمواطنين…الخ ولكنه مرّ من تحت أنوف أهل القنوات مرور الريح على النوافذ المُغلقة.. ويا ليته مرّ مرور (غير الكرام) بالوقوف عنده و(فلفلته) وعقد المنتديات والحوارات التلفزيونية والإذاعية حوله؛ من المختصين والخبراء وغيرهم.. بدلاً من هذه البرامج الهامدة التي يقدمها أنصار (الفقه الميت) الذين يرددون كل يوم ما يعرفه جميع الناس متعلمين وأميين عن صلاة الجنازة وغسل الجنابة وعدد جمرات العقبة ومواقيت طواف الوداع…!!
على الشاشات في الغالب ذات شخوص البرامج الدينية (الساكتة عن الحق) التي كان الناس يشاهدونها في الفترة الإنقاذية (بشحمها ولحمها) وكذلك الحال في البرامج الأخرى، وكأن السودان لم تندلع فيه ثورة (حيّرت العالم) وهو يتأهب اليوم للانطلاق لمرحلة بناء عسيرة في مجال اقتصاده وسياسته وثرواته وموارده..ولكن القنوات الفضائية (ليست لديها مشكلة)! إنها تعيش على فتات البرامج والأحاديث المكررة عن الخناقات الزوجية وعن الأغنية السودانية التي لم تعبر الحدود..!
أين مشاكل المناطق المهمّشة ومعسكرات النازحين واللاجئين وقضايا الزراعة والصناعة والأراضي ومشروع الجزيرة والسكة حديد والنقل الميكانيكي وداخليات الطلاب والتضخم والديون وتدني العملة، والصحة والبيئة والمستشفيات والعطش والزحف الصحراوي وإعادة تعمير الغابات واستعادة الغطاء النباتي؛ أين قضايا التعليم والمدارس الخالية من الكنبات، وقضايا الكهرباء والصرف الصحي؛ وقضايا المشردين وما حاق بشركات الصمغ والسكر وعقارات الدولة.. وأين مشاكل تنقيب الذهب (وطائراته) وعوائده وأين التحقيقات والتقارير حول الفساد وأبعاده وأباطرته، وحول عمران الخرطوم المشوّه (وأحياء التمكين) واليخوت والفلل الرئاسية وخراب الخدمة المدنية وتمكين الفاشلين والحرامية، وما جرى لصناديق الرعاية الاجتماعية ومدخرات المواطنين وحقوق المعاشيين..الخ
الناس ينتظرون إعلاماً يحدثهم عن هذه القضايا ويسهم في الخيارات والمقترحات.. فقد انتهى عهد الجهالة وظهور المذيعات ذوات الأداء البائس والأزياء البرّاقة اللواتي يشبهن (بنات الحلاوة) في رفوف حوانيت المولد..!