قال الشاعر والأديب المكسيكي أوكتافيو باث (1914 – 1998) الحائز على جائزة نوبل في الآداب للعام 1990م، قال: (الثورة هي التمرد الذي يتحول إلى نظرية وإلى نسق.) ولعلّ أهم مرحلة تشير إلى أن الثورة على مشارف النجاح، عندما تضحي الثورة ثقافة ومادة للحديث في البيت وفي الشارع. وثورة ديسمبر صارت مادة للأنس والحوار اليومي في أركان النقاش. بل أضحت مادة يبتكر منها الظرفاء الطرفة والفكاهة الناضجة. تخطى نسق الثورة جدل الساسة والمثقفين ليكون أهازيج للصبية فيي الشوارع وللباعة المتجولين والناس العاديين الذين يصنعون التحول في عصرنا.
لكن يبقى السؤال القاسي : هل بسطت الثورة سيطرتها الكاملة رغم هذا الزخم لينصرف شعبنا إلى البناء والتنمية المستدامة؟ أكيد أن الإجابة “لا” ! والذين يكتبون على جدر صفحاتهم بالمواقع الإليكترونية: (لم تسقط بعد) هم أكثرنا صدقاً. أجزم أنّ ما تبقى من معركة الثورة ضد النظام المندحر هو المشوار الأكثر ضراوة. بقيت مهمة تفكيك مراكز قوى الدولة العميقة حتى يسهل القضاء علىى الغرس السام لعصبة ظلت تدير البلاد بعشوائية ومزاج شمولي لثلاثين سنة! فكانت النتيجة أن أوردت أمتنا الدرك الأسفل من التشظي والحروب الطاحنة والإنقسام. ولتفكيك مثل هذا النوع من أنظمة الإستبداد يلزمنا التسلح بالوعي الثوري وقوة الإرادة . وطبعاً يلزم أجهزة الدولة الوليدة – وبصفة خاصة الجهاز التنفيذي (الحكومة) والجهاز التشريعي لاحقاً – يلزمها الإسراع في كنس جيوب مؤسسات النظام السابق. وهي مهمة ليست بالسهلة ، لكنها غير مستحيلة كما قال رئيس الوزراء الجديد في أول حوار تلفزيوني معه الأسبوع الماضي.
-2-
ولكي نحول تمرد شعبنا في ثورته الضخمة – التي لفتت إلينا أنظار العالم – لكي نحول تمرده إلى نظرية ونسق (نمط حياة) كما يقول الشاعر المكسيكي الكبير أوكتافيو باث، علينا – شعباً وحكومة أن نعي أن سلمية الثورة التي أكسبتها احترام شعوب العالم ، وأن مدنية الدولة بطقسها التسامحي لا تعنيان أنّ فلول النظام القديم تظل باقيةً في العلن، مزودةً بمؤسساتها الإعلامية وشركاتها الأخطبوطية التي لا تحصى . إن الثورة المضادة لها هدف واحد تعمل من أجله ولا تحيد عنه : إفشال خطط ومشروعات شعبنا لبناء وطن جديد رائع ومختلف مكان نظام القمع والإبادة الجماعيةّ! ولأنّ التبشير للدولة المدنية يصحبه منذ البداية إنفراجٌ نسبي في مساحة التعبير والحرية ، فقد جنّ جنون أنصار النظام المباد هذه الأيام وهم لا يرون سانحة للعويل والتنديد بمكتسبات ثورة شعبنا إلا اغتنموها، وتباكوا على الحرية وحقوق الإنسان! إسلامويو السودان الذين استباحوا حرمة إنسان هذا البلد ولا يكاد يخلو بيت من جرائمهم ، يخرجون هذه الأيام من أوكارهم ، ظانين أن العاصفة قد مرت ، وأن ثعبان الثورة بلا أسنان. يحسبون أن هذه فرصتهم ليعيدوا عقارب ساعة التاريخ إلى الوراء!! نماذج كثيرة يمكنني الإستدلال بها على صحة ما قلت ، ليس أقلها قاضي محكمة المخلوع عمر البشير الذي يأذن لمهووسي النظام المباد أن يحتشدوا في قاعة المحكمة مرددين هتافهم الكريه، والدال على دموية فكرهم : فلترق منهم دماء ..ولترق منا دماء ..ولترق كل الدماء!! هتافات وهستريا أحالت رصانة ساحة المحكمة إلى مكان أشبه بنوبة الظار. والقاضي – وهو جزء من المنظومة التي غربت شمسها بطلوع شمس واحدة من أعظم ثورات القرن الواحد والعشرين ، يمنح الفرصة للهوس الذي يصرخ أنصاره بحياة واحد من أبشع القتلة الملاحقين من لدن العدالة الدولية. إن الثورة التي يحسب أنصارها بأنها ستنجز أحلام شعبها بما قدم الشعب من تضحيات جسام ، يصبح سهلا التشويش عليها ، بل سرقتها إن لم تبادر ودون إبطاء إلى إقامة المنظومة العدلية لتشرع في إعادة الهيبة للقانون. ثورة قاعدتها الملايين من أبناء وبنات السودان – جلهم من الشباب – تقف لها جيوب الدولة العميقة بالمرصاد في تعديل وثيقة دستورية لا يساوي تعب وسد ثغرات عيوبها قطرة دم شهيد أرداه القتلة بسلاح ناري وهو يهتف بوطن جديد ، ذاك الحلم الذي صعدت روحه دون أن يرى شمسه الساطعة.
ثمة سؤال: هل نزيل قفص الاتهام في المحكمة ، قبل يومين هو فعلاً عمر البشير رأس النظام المباد؟ سؤالي ليس بريئاً!!
-3-
وتطلع شمس كل يوم ليطالع المواطن المغلوب على أمره ذات صحف النظام البائد ، بكل عهرها في ترويج الأكاذيب، وخبثها في دس السم في الدسم ، عبر عناوينها التي أقل ما يمكن أن توصف به أنها أبعد ما تكون عن المهنية وشرف صاحبة الجلالة الصحافة. هل من أخلاقيات العمل الصحفي أن تطالعنا صحيفة بخبر مفبرك ، يقول بأنّ أعضاء المجلس السيادي قد منحوا سيارات دفع رباعي فارهة، بينما يغلبها أن يكون العنوان الرئيسي عن مجريات النزاع الدموي بين إثنيتين سقط جراها مواطنون سودانيون في واحدة من كبريات مدننا – بورتسودان؟ لم يكن عصياً على مثل هذه الصحيفة أن تذكر خبر الفتنة بين أهلنا بني عامر وأهلنا النوبة في وطنهم الأصغر بورتسودان والجهود الحثيثة التي سعت لنزع فتيل الفتنة، بل والإشارة إلى الأصابع الخفية للثورة المضادة في ذاك النزاع القبلي. لم يكن يغلب تلك الصحيفة أن تجعل الخبر الأهم لصفحتها الرئيسية ذلك الحدث المؤسف. لكنها سارعت بنشر خبر كاذب يكمن خلف نشره إثارة الرأي العام وتأليبهم على الإدارة الجديدة، وأنّ أعضاء مجلس السيادة والحكومة همهم امتطاء السيارات الفارهة على حساب المواطن الغلبان!! وطبعاً لم ينطل الخبر الكاذب على شعبنا. بل سارع عضو مجلس السيادة محمد الفكي سليمان – وهو صحفي بالمهنة – بتكذيب الخبر. وأضاف أن كل أعضاء مجلس السيادة ما يزالون في بيوت أسرهم ولم يمنحوا أي امتياز في السكنى أو الترحيل!
حقاً لم تسقط بعد. لكن ما يجهله خصوم الثورة من سدنة النظام المباد وإعلامهم والمحاكم المكتظة بقضاة أكلوا الذمة مع ما شبعت به كروشهم من الثراء الحرام أن أحداً لم ينتزع أسنان ثعبان الثورة. وأنّ شباب الثورة ما يزال يعرف إيقاع الشارع حين يعلن تجمع المهنيين ولجان الثورة عن مليونية يعرف مئات الآلاف فيها ماذا تعني لهم هذه الثورة الموشحة بدماء شهداء في عمر الورد. ثورة تقف الفتيات فيها كتفاً بكتف مع الفتيان، وهتاف الجميع : ثوار أحرار.. حنكمل المشوار !
فضيلي جمّاع
لندن في 26 اغسطس 2019م
fjamma16@yahoo.com