أمر التجربة السودانية حالها ومآلها. وأقدر لعمان الرسمية والشعبية الترحيب بمخاطباتي حتى في ظروف تسبب حرجاً دبلوماسياً مع خرطوم النظام الظالم بله الآن:
دعوى الإخاء على الرخاء كثيرة ولدى الشدائد يعرف الأخوان
سوف أقدم لكم خطابي في عشر نقاط:
1) رفض الشعوب للاستبداد:
الإنسان خليفة الله في الأرض خلافة مبرراتها مواهب ما توافرت لسائر المخلوقات. (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ) التمييز بين الأشياء أي العقل، وحرية الاختيار: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).
الأمثل لهذا الخليفة ألا تدار شؤونه بالقهر بل بالتراضي:
دعوى القوي كدعوى السباع من الظفر والناب برهانها
الأمثل أن تدار شؤونه كما وضح خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لدى بيعته إذ قال: “وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم (ولاية بشرية)، فإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني (المساءلة)، الصِدْقُ أمانةٌ والكَذِبُ خِيَانَةٌ (الشفافية)، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضعيف عندي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والضَّعيف فيكم قَوِيٌّ عندي حتى أرجِّع عَلَيْهِ حقَّه إِنْ شَاءَ اللَّهُ (سيادة حكم القانون)”.
تخلت الأمة عن هذه المعاني العظيمة وانجرفت في ملك عضوض، وصار غيرنا يستخف بنا إذ يقولون: الاستثنائية الإسلامية، وبعد أن استطاعت بعض البلاد الإسلامية تمارس حوكمة راشدة صاروا يقولون: الاستثنائية العربية.
ولكن مهما قيل فإن الشعوب العربية لم تعد راضية بتلك القسمة. وتعبر عن هذا السخط بوسائل كثيرة.
استشهد هنا بالشعب السوداني الذي شقي في تاريخه الحديث بثلاث نظم دكتاتورية فواجهها بثلاث انتفاضات مدنية في 1964، و1985م، و2018م. وبأربع حركات مقاومة مسلحة في 1963م و1983م و2003م و2011م.
2) ملهبات ثورة السودان الفريدة
الثورة الأخيرة جاءت في قمة حلقات سلفت في 1990م، و1996م، و1998م، و2006م، و2012، و2013م. هذا الزحف الثوري تراكم، وقد زاد لهيبه في الحلقة الأخيرة حيثيات ملتهبة: نسبة الفقر فيي المدن 80% وفي الأرياف 90%، نسبة العطالة العامة 45%، وبين الخريجين 90%، وهجر كثيرون الأرياف إلى المدن هجراً لمواطن الإنتاج، فالخرطوم تريفت وتضاعف سكانها خمس مرات. وكثيرون هجروا الوطن إلى الملاجيء في الخارج حتى بلغ العدد ربع السكان. وصار الغلاء لا يطاق، والعملة الوطنية صارت هباء منثوراً: الدولار الذي كان في أول العهد يساوي 12 جنيهاً صار يساوي 80 ألف جنيهاً. وتمرغ اسم الوطن في التراب إذ صدر ضده لأول مرة في تاريخه 62 قرار مجلس أمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولوحقت قيادة النظام بأمر اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية لجرائم حرب وضد الإنسانية وإبادة جماعية. وتعددت القياسات الدولية في مقاييس الشفافية الدولية والحرمان من الحريات، ونسبة النازحين من قراهم، وهلم جراً. وحاول النظام تغطية عيوبه بالشعار الإسلامي المفرغ من معناه، وبالغ في ممارسة الأكروبات الدبلوماسية بلا أية مبدئية أفقدته الصدقية.
إذا عرف السبب بطل العجب. تفشي هذه المثالب يفسر الغضبة الثورية الفريدة التي انطلقت ضد النظام في أواخر العام الماضي. غضبة ثورية عامة ولكن تصدرها الجيل المولود في العهد الظلاميي الذي ضيع النظام مستقبله.
نعم عاصر الثورة السودانية الأخيرة ثورات كما في الجزائر وفي فرنسا. كانت في الجزائر أسبوعية أيام الجمع، وكانت في فرنسا أسبوعية أيام السبت. ولكنها في السودان في كل أيام الأسبوع، وفي كل ساعات اليوم، ولمدة قياسية: ثمانية شهور.
3) بركات الثورة:
صحبت الثورة السودانية عوامل وصفتها بالبركات بينها:
– انطلقت من الأطراف ثم زحفت على العاصمة.
– ولدت بأسنانها من اليوم الأول في السادس من أبريل 2019م زحفاً واعتصاماً أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة.
– القيادة العامة لم تصدهم كما يتوقع بل استضافتهم.
– لجنة الأمن الرباعية المجهزة لقهر الشعب والمأمورة بفض الاعتصام بالقوة رفضت الأمر وطردت الآمر به من مقعده.
– قوات الدعم السريع المجهزة لحماية البشير حتى قال حميدتي (أي قائد قوات الدعم السريع): حمايتي. ولكن صار تدبيره في تدميره كما كان لفرعون ربيبه المجلوب من النيل.
– حظيت الثورة منذ البداية بدعم عربي، وأفريقي، ودولي، حتى إذا صمتت حكومات فقد أفصحت المنابر الإعلامية.
– أدوات النظام التي حاباها بالمحسوبيات وأنفق عليها كثيراً من موارد البلاد أصيبت بالشلل التام.
4) مراحل الثورة الثلاث:
الثورة الشعبية السودانية لم تحقق أهدافها بالضربة القاضية، بل سارت على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: إزاحة الطاغية وإدارة المجلس العسكري للشأن العام. مرحلة انتهت في 17/8/2019م.
المرحلة الثانية: إقامة حكم مدني بمشاركة عسكرية تحكمه وثيقة دستورية متفق عليها.
المرحلة الثالثة: الاتفاق على دستور دائم للبلاد يضعه مؤتمر قومي دستوري وإجراء انتخابات عامة حرة بموجبها تحقق الثورة غايتها المنشودة.
المرحلة الأولى عانت من عدم استعداد الجهات المعنية بالقدر الكافي لتصريف مهامهم، وشوهتها عملية دموية كادت تعصف بالتجربة كلها عندما جرى فض الاعتصام الشعبي في 3/6/2019م بصورة وحشية. ولم يهدأ البال إلا بالاتفاق على تكوين لجنة مستقلة للتحقيق فيما حدث ومحاسبة الجناة.
في الطريق إلى هذا الإجراء كون حزبنا لجنة مؤهلة كشفت حقائق سوف يستفيد منها التحقيق المستقل المنشور.
لقد تم تكوين مجلس سيادي من رئيس وعشرة أعضاء مشترك بين 6 مدنيين و5 عسكريين ليمارس سلطات سيادة مستمدة من النظام البرلماني.
تكوين هذا المجلس إنجاز، ولكن لا يخلو من عيبين: الأول دخل في تكوينه عامل محاصصة حزبية غير موفقة، والثاني أن عناصر غير جماعتنا في الحرية والتغيير عارضت النظام المخلوع لم تشارك في المشاورات.
بموجب الوثيقة الدستورية سوف تكفل حقوق الإنسان والحريات العامة واستقلال القضاء. وسوف يتولى التشريع مجلس مكون من قوى الحرية والتغيير والقوى الأخرى التي ساندت الثورة، وكافة مكونات المجتمع السوداني القبلية والطرق الصوفية والمنظمات المدنية، وسلطاته موضحة في الوثيقة الدستورية. ويستحسن أن يفوض مجلس السيادة ومجلس الوزراء تكوينه لمفوضية خاصة.
وبموجبها كذلك اتفق على اختيار د. عبد الله حمدوك لرئاسة الوزارة.
بعض زملائنا يتطلعون لمحاصصة في تكوين مجلس الوزراء. هذا مرفوض. ووعدنا لرئيس الوزراء أنه حر في اختيار وزرائه ومساءلتهم. يمكن لمن شاء، وقد فعلنا، أن يقدم أسماء مقترحة من الأكفاء، ولكنه حر في اختيار من يشاء للوزارة بلا محاصصة حزبية. طرح بعض الحلفاء فكرة تكوين مجالس استشارية للوزارات. هذا يخل بمسؤولية الوزراء وغير صحيح. ينبغي أن يمارس المجلس صلاحياته التنفيذية بلا تدخل. ونحن ملتزمون بدعمهم وحمايتهم من حملات يساريين تائهين وسدنة مغبونين. لقد غرس النظام الآفل ثقافة فساد هي الوجه الآخر من غياب المساءلة وغياب الشفافية، وسوف تركز المفوضية المعنية باستئصال الفساد على اقتلاعه واسترداد الأموال المنهوبة. والآن سوف يطلب من كل الذين سوف يتولون مكانة رسمية في السيادة أو في مجلس الوزراء ثلاثة ضوابط هي: – بيان إبراء الذمة للمساءلة المنشودة. – عدم المشاركة بأية صورة في أية أعمال كسبية خاصة. – عدم المشاركة في الانتخابات التي تعقب الفترة الانتقالية. سوف يدعم العمل التنفيذي مفوضيات متفق على ضرورة تكوينها. قدم بعضنا تصورات لهذه المفوضيات، ولكن بالمقارنة فإن التصور الأكثر إحاطة هو الذي قدمه حزب الأمة القومي بعنوان “مصفوفة الخلاص الوطني”. 5) مصفوفة الخلاص الوطني: مصفوفة الخلاص الوطني مشروع تميز بالاهتمام ببرنامج إسعافي للموسم الزراعي، وللبيئة الطبيعية، وببيان كيفية تفكيك تمكين النظام المخلوع، وباقتراح ميثاق شرف للتعامل بين القوى المدنية والعسكرية في الفترة الانتقالية، وباقتراح الإقبال على الانتخابات بشكل ممرحل للمحلية والولائية والعامة، وبمشروع توأمة لدولتي السودان، إلى جانب مسائل أخرى مهمة على رأسها اقتراح مواثيق، ثقافي وديني وعسكري ونسوي، هذه المواثيق تمثل تقوية فكرية لاجتهادات الفترة الانتقالية. وتناولت المصفوفة خطة التعامل مع القوى السياسية المحسوبة على النظام الآفل على أساس: لا لعقوبات جماعية، لا للمشاركة في الفترة الانتقالية، نعم لمساءلات قانونية تحت عنوان العدالة الانتقالية، وقانون من أين لك هذا؟ وإجراءات محددة لتفكيك ما حصلوا عليه من امتيازات غير مشروعة. ويرجى أن يحرصوا على إجراء نقد ذاتي لتحقيق إصلاحات لكيانهم للمشاركة بعد الفترة الانتقالية في بناء الوطن، لا سيما وقد كان كثير منهم ناقداً للتجربة الآفلة دون أن يشاركوا في تحديه. 6) تحديات الانتقال: الفترة الانتقالية سوف تواجه مشاكل كبيرة، أهمها: تحديات السلام العادل الشامل المنشود. استعداد كل قوى الثورة لمخاطبة وإزالة كافة الأسباب التي أدت للحروب متوافر. ولكن ستواجه عملية السلام ثلاثة عقبات هي: – الخلافات بين قوى المقاومة المسلحة، ما يعني أن الاتفاق مع أية جهة سوف يستفز جهة أخرى. – هنالك أكوام من عدم الثقة يعرقل مسيرة السلام. – وجود تحالفات بين بعضها، وقوى غير سودانية في دول الجوار، وربما مع غير دول الجوار. البلاد في حالة انهيار اقتصادي فعلاً ما يعرقل إدارة الحكم الانتقالي، ويفرض تحدياً كبيراً في إعادة بناء النظام المصرفي وضبط إدارة البنك المركزي، وفتح المجال لشباكين للمعاملة المالية وإعادة الثقة في النظام المصرفي، وتوفير الضرورات المطلوبة بكميات كافية. في هذا الصدد قدمنا مشروعاً كاملاً بما ينبغي عمله لوقف التدهور الاقتصادي وتحقيق الإصلاح. هذه عقبة كؤود. مقترحاتنا شملت السياسات والخطط المطلوبة للبرنامج الإسعافي، وعلى ضوء إعلان رئيس الوزراء بالحاجة لـ8 مليار دولار اثنان منهما عاجلان، نكرر دعوتنا لمؤتمر “دافوس” سوداني لاستمطار دعم الأشقاء في أقرب فرصة، مع ضرورة أن يهب السودانيون بلا حدود لدفع ضريبة التحرير بالعملة الصعبة، ويحدث استنهاض مماثل بالعملة المحلية لكافة شرائح المجتمع السوداني بالداخل لدفع الضريبة كل حسب استطاعته. أهمية دور السودان سوف تشد كثيراً من القوى الإقليمية والدولية لاستمالة السودان لمحاورها. صراع المحاور هذا من التحديات المهمة التي تواجه الفترة الانتقالية. لقد اقترحنا رؤى لهذه الفترة. ونرى الترحيب بكل جهة تمد لنا يد العون غير المشروط بمحورية. واقترحنا تنظيم مؤتمر قومي للشؤون الخارجية لبيان السياسة الرشيدة. هنالك عيوب في الوثيقة الدستورية كان يمكن تجنبها أهمها: – كان ينبغي النص على أن الإسلام هو دين أغلبية السودانيين، ولدعاته الحق في التطلع لتطبيق تعاليمه بشرط الالتزام بحقوق المواطنة المتساوية للكافة وحرية العقيدة لكل الأديان، والالتزام بالنهج الديمقراطي. – وكان ينبغي النص على أن اللغة العربية هي لغة البلاد الوطنية مع كفالة حقوق الثقافات واللغات الأخرى في البلاد. هذه العيوب والاحساس بالإقصاء سوف تتيح الفرصة لسدنة النظام المخلوع وللقوى الحشوية فرصة للعمل على إفشال التجربة الانتقالية. لمواجهة هذه التحديات قدم حزب الامة مقترحات محددة لمواجهتها كذلك فعل آخرون. 7) الفرص: التحديات جسيمة ولكن هنالك عوامل قوية تبشر بنجاح هي بركات أخرى أهمها: أولاً: وجود قاعدة شعبية معبأة ومتحمسة داخل السودان وخارجه في “سودانيون بلا حدود”. هؤلاء يشكلون احتياطياً جاهزاً لحماية الثورة. إنهم اشبه بحساب توفير للملمات. ثانياً: حزب الامة القومي يمتاز بالآتي: – أنه من بين أحزاب الاستقلال الذي صمد وواجه كل تحديات الاختراق والتوهين. – وهو الحزب الوحيد بخلاف الأحزاب الجديدة الذي لم يلوث موقفه بالانحياز للنظام المباد، من فعل ذلك من منسوبيه فعل ذلك بصورة فردية تبرأ الحزب منها بصورة قاطعة. – احتضن الحزب كافة الانتفاضات ضد النظام حتى الثورة الأخيرة التي شارك فيها. وامتياز الحزب بالاعتراف بالمستجدات والاستعداد لاستصحابها في تأسيس رابع نادي به. ثالثاً: القوى المضادة لا بديل لها، فالعودة للمربع الأول خاسرة. والرهان على دعم شعبي لموقفها الملوث باطل، والتطلع لبديل دكتاتوري لا يجدي. رابعاً: هنالك موقف واعد لدعم الثورة إقليمياً ودولياً وقد اقترحنا كيفية تفصيل هذه الإيجابية بصورة عملية. السلام والاستقرار في السودان مطلب اقليمي ودولي ويرجى عقد ملتقى إقليمي تحت رعاية مجلس السلم والأمن الأفريقي لإبرام اتفاقية أمن وتعايش بين السودان وجيرانه. وعقد مؤتمر دولي يطور موقف أصدقاء السودان إلى برنامج محدد لدعم التجربة السودانية، ما يرجى أن يحقق رافعاً مهماً للسلام والتنمية في السودان . 8) الحكم الراشد الاجتماعي التوافقي: إذا استطاع السودان أن يعبر المرحلة الثانية بنجاح تنتظره المرحلة الثالثة وفيها تحديات كبرى أهمها: تأسيس لفكر يوفق بين التأصيل والتحديث، ولديمقراطية سياسية توفر شروط الحكم الراشد الأربعة (المشاركة، المساءلة، الشفافية وسيادة حكم القانون)، ومباديء حقوق الإنسان الخمسة (الحرية، العدالة، الكرامة، المساواة والسلام)، ولديمقراطية اجتماعية تواجه قضية الفقر والحرمان، ولعلاقات إقليمية ودولية تحقق التوازن المنشود وتبادل المصالح دون تبعية. أقول: مطالب التأصيل ومطالب التحديث كلاهما يقوم على حاجة موضوعية وتكاملية لا يجوز الاستجابة لأحدهما دون الآخر، وقد قدمنا اجتهاداً بعنوان جدلية الأصل والعصر، يرجى ان يوفر اجتهادا للمرحلة القادمة. فيما يتعلق بالمسألة السياسية فإن الديمقراطية المعيارية لن تستقر، والمطلوب ديمقراطية توافقية، وهي تقوم على احترام مبادئ الديمقراطية الأربعة مع ترشيدها بميثاق توافقي يهذب المغالبة بالوفاق عليه. 9) إصلاح الجسم السياسي هذا النهج يتطلب من القوى السياسية مراجعات تتجاوز تناحر الثمانينيات. فالقوى السياسية العاملة منذ عهد الاستقلال تراعي الإصلاحات الآتية: ⮚ الفصل بين الدعوي والسياسي في كيانها الحزبي. ⮚ إخضاع كافة أجهزتها للانتخاب الحر النزيه. ⮚ الاستعداد لاستصحاب المستجدات من مفاهيم جديدة وقوى اجتماعية جديدة كالمرأة والشباب. ⮚ الاستعداد لتحالف واسع لقوى الوسط السياسي، تحالف اختياري. ⮚ الحركات التي ترفع الشعار الاسلامي ينبغي أن تتبرأ من تجربة النظام الانقلابي، والتخلي عن الحاكمية فولاية الأمر بشرية يحددها البشر عن طريق الشورى. نعم سيكون من نهجهم تغليب التأصيل على التحديث ولكن المطلوب منهم الوفاء لأسس ولاية الأمر الأربعة ولحقوق الإنسان الخمسة. ⮚ الحركات اليسارية جزء مهم من الكيان السياسي السوداني. ولكنهم وقعوا في ثلاثة اخطاء هي: الأولى: التمسك بمطالب أيديولوجية تجاوزها التاريخ الاجتماعي، ما يوجب مراجعات تحتفظ بها بالآليات المنهجية مع تطبيقها على الواقع المتغير، هذه هندسة فكرية اجتماعية مطلوبة. الثانية: زحموا الاعلام برفض ما سموه الهبوط الناعم كأنهم على استعداد لفرض الهبوط الخشن، وها هو الهبوط الناعم يشكل المرحلة التاريخية الحالية، فسكتوا كأن الأمر لا يهمهم، الواجب نقد المبالغات واحترام الواقع. الثالثة: أدانوا الوثيقة الدستورية بصورة طابقت مواقف الردة المضادة، ثم ها هم يحرصون على المشاركة في بناء المرحلة الانتقالية دون أي تفسير لهذه الذبذبة. الواجب أن يقوموا بمراجعات تؤهلهم لمرحلة بناء الوطن بالصدقية المطلوبة. يا هؤلاء: الماركسية أداة تحليل وبرهان واستنتاج مؤسس عليه وعلى حقائق الواقع. الأداة ثابتة ولكن الواقع متغير، تغير في أمر الدين وفي أمر الرأسمالية، وفي أمر الديمقراطية، وفي أمر الوطنية ما يوجب استنتاجات جديدة، وإلا صارت الماركسية دوغما نفر عن احتمالاتها مؤسسها نفسه. ⮚ قوى المقاومة المسلحة جزء مهم من الجسم السياسي السوداني وبالمقاومة المسلحة استطاعت أن تثبت لمواقفها حجة تاريخية، وبعد الثورة الشعبية التي ساهمت نضالاتهم في تحقيقها، آن الاوان للانتقال من رؤية السودان النقيض إلى رؤية السودان العريض الذي يؤهلهم عطاؤهم للمشاركة في بنائه. ⮚ الاتجاهات القومية العربية تحتاج لمراجعات أساسية. في عام 1988م التقيت الاستاذ مشيل عفلق في بغداد وتحاورنا. قلت له للبعث العربي معناه في الشام لأنه يجمع بين المسلم العربي والمسيحي العربي، ولكن في السودان هذا الشعار مفرق، ففي السودان إثنيات وثقافات أخرى. اعترف بأن الأمر في السودان ذو خصوصية تتطلب المراعاة، ووعد أن يكتب في الأمرـ ولكن توفى قبل ذلك وترحمت عليه ناعياً وذكرت هذا الوعد. بعض القوى البعثية في السودان راجعت الموقف بعنوان “البعث السوداني”، هذا هو النهج المطلوب. هذه اللبنات عبر المراجعات يرجى أن تؤهل الجسم السياسي السوداني بكافة مكوناته للمشاركة في بناء الديمقراطية المستدامة على أساس التوافق لا مغالبة صفرية. 10) الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية المستدامة: الديمقراطية السياسية وحدها غير كافية ما لم تصحبها ديمقراطية اجتماعية. فلا استقرار لنظام مهما وفر من الحقوق السياسية إذا غلبت نسبة الفقراء، والمهمشين، والعطالى، وسكان العشوائيات. الجوع أخو الكفر، ووجوده يبطل السلام الاجتماعي. لا استقرار لنظم حتى إذا حققت الديمقراطية السياسية ما لم تلتزم وتحقق منظومة: ديمقراطية سياسية، وديمقراطية اجتماعية، وعلاقات إقليمية ودولية تحافظ على حرية القرار الوطني وأقصى درجات التعاون الإقليمي والدولي المؤسس على المنافع المتبادلة. هذه هي شروط الديمقراطية المستدامة التي يرجى أن يكون في رحابها مآل السودان. أقول في الختام: إذا استطاع السودان الوفاء بشروط الديمقراطية المستدامة فإنه يومئذٍ يعبر بنفسه وبمنطقته إلى مرحلة تاريخية جديدة إذا حققناها صرنا كيانات فاعلة في التاريخ، لا مفعول بها كما تريد قوى الهيمنة الدولية و أدواتها المحلية. هذه جائزة يمكن جنيها فبالفهم الوضعي: على قدر اهل العزم تأتي العزائم. وبالفهم الروحي هي اسم الله الاعظم، ولذلك جاء: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) .