ما سيبدو جلياً بمزيدٍ من التحليل والتركيب وراء فتنة الاحتراب الأهلي في مدينة بورتسودان (شرقي السودان)، تؤشر خيوطه المتشابكة مع معطيات عديدة، إلى أسباب سياسيَّة تتصل في صميمها بطبيعة السيولة الأمنية في البلاد منذ سقوط رأس النظام (عمر البشير) في أبريل (نيسان) الماضي، الأمر الذي سيصرف النظر عن كونها أسباباً قبلية أو عنصرية، وإن كان أكثر ضحاياها هم الأبرياء من قبيلتين محددتين بالمدينة.
مصممو الجريمة استغلوا هشاشة الوضع التكويني لأحياء الهامش الطرفيَّة، لإمكانية تسريع الفتنة في مثل بيئاتها. ولإدراكهم أن ما يجمع النوبة وبني عامر والحباب بغالبيتهم في الحيين المتجاورين هو الوضع الطبقي، ولمعرفتهم بذاكرة قديمة لصراع قديم بين المكونين في المدينة (العام 1986)، كانت أسبابه سياسية ومشابهة للوضع الآن في كونه وضعاً انتقالياً إثر انتفاضة العام 1985 التي أطاحت الجنرال نميري آنذاك.
بيد أنه (في حدود هذين الشبهين وتلك الذاكرة القديمة) لا تكاد توجد صلة بين أسباب الفتنة اليوم وأسبابها بالأمس، وسيكون مضللاً بحث الباحثين إذا ما أرادوا تعريفاً لهذه الفتنة بوصفها فتنة عنصرية أو عرقية، مستلهمين ظاهر الصراع الذي كان بين الطرفين قبل 33 عاماً.
فاليوم، لن يبدو الأمر غريباً إذا عرفنا أن هذه الفتنة متنقلة، طافت (قبل بورتسودان) بمدينتين في الإقليم الشرقي: (القضارف) و(خشم القربة) لتثير النزاع بين النوبة وبني عامر في المدينتين، منذ سقوط البشير ما يعني أن التدبير السياسي للنظام الذي لم تسقط رموزه في الجهاز العام للدولة، هو الذي ظل فاعلاً.
لكن اتساع الفتنة في بورتسودان تمده أسباب أخرى، إلى جانب السبب الأصلي المتصل بالنظام القديم. فبورتسودان ليست القضارف، وليست خشم القربة إذا ما عرفنا أن صلاح قوش مدير جهاز الأمن السابق (والرجل الذي كان مرشحاً لخلافة البشير) نشأ وترعرع في بورتسودان، وإذا عرفنا، أن بورتسودان هي الميناء الرئيس للبلاد، كما إذا عرفنا وجود نص واضح في الوثيقة الدستورية يقضي بتحويل جهاز الأمن الوطني إلى جهاز معلومات، ما يعني تسريح الآلاف من الكتائب العسكريَّة لجهاز الأمن وإعادة دمجهم في أجهزة أخرى للقوات النظامية. وأخيراً إذا عرفنا الترتيبات الوشيكة لقيام حكومة قوى الحرية والتغيير لقيادة المرحلة الانتقاليَّة.
هكذا، بعد فشل فتنتي القضارف وخشم القربة كان الرهان على كبرى مدن الشرق (بورتسودان) من أجل إجهاض تجربة التعايش السلمي لنسيج المدينة عبر خاصرة الأحياء الطرفية الهشة، ووضع العراقيل أمام الاستقرار الدائم للمرحلة الانتقالية المقبلة.
الذين تحدثوا للأجهزة الإعلامية من أعيان النوبة وبني عامر والحباب، ولجنة حكماء الصلح في المدينة كلهم أجمعوا على حقيقتين، الأولى: أن الذين تسببوا في هذه الفتنة هم عصابات “النقرز” الذين كانوا يتحركون بطريقة منظمة، (عصابات النقرز إجرامية منظمة أنشأها جهاز أمن نظام البشير ليستخدمها في الأعمال القذرة كإطلاق يديها في بعض أحياء الخرطوم لترويع المواطنين، بهدف إرسال رسائل مبطنة لإعادة تسويق نفسه بأنه الضامن للأمن).
والثانية أن أصابع نظام البشير وهياكله هي التي ما زالت قابضة بمسببات هذه الفتنة، بما يمكن أن يكون كافياً، إذا أعدنا تحليل وتركيب الوقائع، للوصول إلى وضوح جلي فيما وراء أصل الفتنة على هذا النحو: تزامن الفتنة في مرحلتها الأولى ببورتسودان مع مجزرة فض اعتصام القيادة بالخرطوم، وتسريح قوات الدعم السريع (التي حافظت على الأمن بين الحيين بعد الصلح في عيد الفطر) قبل أيام من اندلاع الفتنة مجدداً واستبدالها بجيش شاركت بعض عناصره في الفتنة إلى جانب أحد الطرفين (النوبة)، وإقالة الوالي (وهو عسكري برتبة لواء ركن) ومدير الأمن في الجيش دون أي مساءلة أو محاسبة، وإقرار شيخ قبائل النوبة بعدم قدرته على السيطرة على عصابات “النقرز” في حي “فلب” (هناك تشابه بين عصابات “النقرز” في اللون والسحنة الزنجية لكنهم ليسوا من النوبة)، ثم طرد لجنة حكماء الصلح من حي النوبة “فلب” (فيما اُستقبلوا بالترحاب في حي بني عامر دار النعيم)، وعدم القبض على عصابات النقرز حتى الآن وتركهم طلقاء، وغياب سيارات الإطفاء عن حرائق البيوت في الأحياء، وغياب مؤتمرات صحافية يومياً للناطق الرسمي باسم الحكومة في المدينة لشرح مجريات الأحداث بكل شفافية، في الوقت الذي كانت فيه الفتنة لا تزال تحصد أرواح الأبرياء؟
كل هذه المعطيات ودلالاتها تؤكد بوضوح، أن نظام البشير وجهاز دولته ما زال ناشطاً، وأن الهدف هو إفشال مرحلة الانتقال الديموقراطي بزعزعة الاستقرار في المدينة قبل تشكيل الحكومة الجديدة لقوى الحرية والتغيير.
وعلى ضوء ذلك يمكن سرد بدايات الفتنة الأولى باختصار (كما جاءت على لسان أحد الناشطين في مدينة بورتسودان) على النحو التالي:
في ليلة العيد يوم الـ30 من يونيو (حزيران)، الـ30 من رمضان، (بعد يومٍ واحدٍ بعد مذبحة فض اعتصام القيادة العامة بالخرطوم وفي أثناء قطع الإنترنت في عموم السودان) وصل بورتسودان زوّار غرباء، هم عصابات “النقرز” من خارج المدينة عبر باصات نقل، وحُشِدوا قرب السوق الكبيرة، ثم أقلتهم الحافلات إلى جنوب المدينة، حيث يقع كل من حي “فلب” الذي تقطنه قبيلة النوبة، وحي “دار النعيم” الذي تقطنه قبيلة بني عامر والحباب.
ونظراً إلى وقوع الحيين الكبيرين بجوار بعضهما (يفصل بينهما طريق عام)، أطلقت عصابات “النقرز” يدها (كانوا أكثر من 150 مجرماً)، أولاً، في سوق تقع على نهاية حي بني عامر (دار النعيم)، فأحدثت تخريباً ونهباً في المقاهي والمطاعم والبقالات نحو التاسعة مساءً ليلة عيد الفطر، ثم فرَّت تلك العصابات بعد أعمال النهب إثر مطاردتها عبر الشارع، ولجأت إلى حي النوبة (فلب) بدعوى أن أفراداً من بني عامر يهددونهم ويطاردونهم (نظراً إلى التشابه في اللون والسحنات الزنجية بين أفراد هذه العصابات وقبائل النوبة مع أن النقرز ليسوا من النوبة)، فظن بعض النوبة أن ذلك تهديدٌ لحيهم من بني عامر، ووقعت الاشتباكات المؤسفة في الفتنة التي راح ضحيتها في الأيام التالية 40 شخصاً.
وبعد نصف الساعة من هذه الأعمال الإجرامية بين الحيين، نُقلت العصابات منهما بطريقة منظمة عبر الحافلات ذاتها إلى سوق بورتسودان الكبيرة، فقاموا هناك بنهب “أسواق مكة”، ولم تأتِ الشرطة إلا متأخرةً.
هكذا بدأت الفتنة في عيد الفطر المبارك، ثم تجددت مرة أخرى على مدى أسبوع منذ يوم الـ22 من أغسطس (آب) الماضي.
وبوصول أعداد كبيرة من قوات “الدعم السريع” إلى مدينة بورتسودان مقبلة من الخرطوم يوم الخميس الماضي الـ29 من أغسطس (آب) الماضي، ومباشرتها العمل على إطفاء الفتنة وفض النزاعات في مناطق التماس داخل أحياء الصراع، هدأت بورتسودان، ونام الجميع بأمانٍ في المدينة. وبدا واضحاً نية الخرطوم في إنهاء صراع في شرقي البلاد قد ينذر بتجديد حرب أهلية، على غرار الحرب في دارفور (غرب).
والآن، بعد أن بدأت مؤشرات استتباب الأمن وانطفاء الحرائق، سيكون من الأهمية بمكان لكل القوى السياسية والمدنية في مدينة بورتسودان، إلى جانب الطرفين الإسراع بالمطالبة لتعويض المتضررين من الطرفين، والمطالبة بمحاسبة ومحاكمة الوالي السابق ولجنته الأمنية (هذا الشرط سيكون هو الاختبار) وجميع المتورطين في هذه الفتنة، من خلال حراك جماهيري لتلك القوى عبر تنظيم من تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير.
الفتنة في وسائل التواصل وصحافة الخرطوم
في فضاءٍ آخر، كان للفتنة ردودٌ فعل سلبية، بطريقة منعكسة مضطردة، تأججت عبر وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، واتساب، تويتر)، وقامت فيها حروب إشاعات وسرديات، وتحريض وتضليل، بين المكونين. مع استغلال بشعٍ لكثيرين من مرضى النفوس في استثمار أجواء الفتنة، ما أحدث آثاراً خطيرة على واقع الأرض عبر تأثيراتها الضارة.
ونظراً إلى ما أسلفناه من طبيعة السمة الهامشيَّة للأحياء التي وقعت فيها الفتنة وهويات ساكنيها الإثنية الطرفية (موطن النوبة الأصلي هو غرب السودان، فيما بني عامر أقصى شرق السودان)، ولبعد مدينة بورتسودان عن العاصمة فإن ردود فعل الفتنة الأهلية في بورتسودان، في غالبية الوسط الصحافي بالخرطوم، وتعامل بعض الكتاب والصحافيين معها، بدا حالة عيانية لتثميلات عكست وعياً هامشياً موازياً في الاهتمام بها للأسف. فظهر في البدايات مقال يتيم في صحيفة “الانتباهة” على ما فيه من أخطاء، ثم ظهرت “تحليلات” لبعض الهواة من حملة الدكتوراه في وسائل التواصل، ربطت على نحو ساذج أسباب الفتنة في بورتسودان وتدخل قوات الدعم السريع، بأهداف جيوسياسية لمحاور خارجية، فيما كان بعض كتابات المثقفين المعروفين مثل الكاتب اليساري د. عبد الله علي إبراهيم تتمحور حول فذلكات تاريخية غير معروفة لأصل الفتنة في ستينيات القرن الماضي بناها على مصادر غير دقيقة. وبطبيعة الحال هناك صحافيون في العاصمة كتبوا عن الحدث عبر منابر مختلفة في الوسائط الرقمية.
ربما كان غياب المعلومات الصحيحة في أسباب هذه الفتنة سبباً في ضعف المتابعة الصحافية في الخرطوم. إلى جانب انطباع عام في أوساط كثيرين هناك عكس صورة غير صحيحة عن مكون بني عامر والحباب في بورتسودان، بوصفهما الضالعين في هذه الفتنة عبر ممارسات اضطهاد على النوبة في مدينة بورتسودان. وذلك نظراً إلى خلفية المظالم وحروب الإبادة التي تعرَّض لها أهالي النوبة في مناطقهم بالجبال على يد نظام البشير سنوات عديدة، وكذلك ربما للاعتقاد بأن النوبة أقلية في بورتسودان من ناحية، وبأنهم في غير مناطقهم الأصلية (جبال النوبة غربي السودان) من ناحية ثانية.
ورغم شعور السخط على قوى الحرية والتغيير لكثيرين في مكون البني عامر والحباب نظراً إلى ضغوط هذه الفتنة التي هجّرت كثيراً منهم من أحيائهم بعد حرق منازلهم (كان الحريق متبادلاً إلا أن الذين هُجِّروا نتيجة لحرق منازلهم هم بنو عامر والحباب،)، ونظراً لغياب تصريح مباشر من رئيس الوزراء الجديد الدكتور عبدالله حمدوك، يدين هذه الفتنة. لا بد للنخب السياسية والمثقفة منهم أن تتخلص من ذلك الشعور بإعادة الثقة بهذا العهد الجديد، وما يتوفر عليه من إمكانات كبيرة للعمل والحرية وتولي زمام المبادرة (لماذا لم نشهد مثلاً تظاهرة بالآلاف لمكون البني عامر والحباب بالدرجة الأولى احتجاجاً على هذه الفتنة بالمدينة)، وأن يكون تركيزهم مع كل الفاعلين السياسيين والقانونيين والإعلاميين في بورتسودان للمطالبة بالتحقيق الشفاف ومحاسبة الوالي السابق وجهاز أمنه وكل المتورطين لاستئصال جذور هذه الفتنة.
اندبندنت عربية