بعد أدائه القسم رئيساً لوزراء المرحلة الانتقالية في السودان، تحدث الدكتور عبدالله حمدوك عن القضايا العاجلة التي ينوي أن يمنحها الأولوية في برنامج وزارته، وكما هو متوقع وضع في مقدمة برنامجه وقف الحرب وتحقيق السلام، ومعالجة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعيشها البلاد.
وأشار إلى الاتصالات التي أجراها مسبقاً مع بعض الدول الصديقة، ومع مؤسسات المال العالمية وفي مقدمتها صندوق النقد والبنك الدولي، التي يطمح في دعمهما لبرنامجه الاقتصادي، وفاء بالتزامهما نحو السودان كعضو في كلتا المؤسستين، كما أشار إلى اتصالات مع الحكومة الأميركية بغية إقناعها برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
هذه كلها بنود أجندة إسعافية عاجلة لا خلاف عليها، وتجد منّا كل المساندة والدعم، ونظن أن القوى الوطنية كافة تتفق على إعطاء الأولوية لقضايا السلام وقضايا الاقتصاد، ولا شك في أن هناك موجة من التفاؤل سادت الساحة السياسية وكشفت عن رصيد كبير من حسن النوايا يتمتع به دكتور حمدوك في رئاسته للوزارة، ولا شك عندنا أيضاً في أنه لم يمر على السودان في تاريخه الحديث رئيس وزراء تمتع بكل هذا القدر من الدعم والمساندة وحسن النوايا.
رغم ذلك كله، فإننا ندرك تماماً أن حجم التحديات التي تواجه الحكومة كبير بكل المقاييس، وأن المصاعب التي ستعترض الطريق غير مسبوقة، وقد زادت تعقيداً نتيجة بطء الإجراءات التي صاحبت عملية الانتقال، ولذلك يجب ألا نقع في الخطأ القاتل فنسهّل الأمور، ولا بدّ من التحسّب لكل العقبات المتوقعة وغير المتوقعة.
أولى هذه العقبات عندنا، أن جهاز الدولة الحالي المترهل والمتسيب -وربما كان المعادي للتغيير المطلوب- لن يتحمل المسؤوليات التي تترتب على تنفيذ برنامج النهضة الطموح، وسيحتاج كل وزير في وزارته إلى إعادة تقييم الهياكل الإدارية والقوى البشرية، والتقاليد والممارسات التي أفرزتها سياسات «التمكين» وانعدام مبادئ المساءلة والمحاسبة، وعدم التقيد باللوائح والقوانين والإجراءات السليمة، والجزر المعزولة التي أقامها بعض النافذين في النظام البائد والمجاملات والمحسوبية والمبالغة في خلق الوظائف لترضية «المحاسيب»، كلها أصبحت أمراضاً مستوطنة في الجهاز الحكومي، ولا يمكن القضاء عليها بين يوم وليلة، كما لا يمكن إعمال مبدأ الفصل الجماعي أو العشوائي الذي ينافي العدالة، فالأمر يحتاج إلى معالجات حكيمة، وإلى اعتماد الكفاءة أساساً للوظيفة، وإزالة الترهل والعطالة المقنعة، والأجهزة والمؤسسات التي أنشئت للترضيات فحسب، وألا يضيق الناس زرعاً بالتدرج في إحداث هذه الإصلاحات، فالتدرج هو الأسلوب الأمثل في تحقيق العدالة في مثل هذه الظروف.
إذا كان جهاز الدولة بوضعه الحالي هو المعوق الأكبر للأداء الحكومي، فإن هياكل الخدمة العامة نفسها في حاجة إلى إصلاح عاجل، وإلى التوسع في إدخال التقنيات الجديدة، واعتماد الحكومة الإلكترونية، والاستفادة القصوى من هذه التقنيات المتقدمة في إحكام الرقابة وضبط الأداء ومحاسبة الفساد والتسيب، حتى تصبح الكفاءة وحسن الأداء والنزاهة ليست مجرد شعارات بل حقيقة واقعة يلمسها كل الناس، وتؤدي إلى تحسين الأداء وإلى سرعة معالجة مشاكل المواطنين الذين يتعاملون مع الجهاز الحكومي.
لقد تنازلت الأحزاب وتجمع المهنيين عن المشاركة في تشكيل الحكومة، مفضّلين أن يكون المعيار الوحيد لاختيار الوزراء هو الكفاءة والحياد -وهذا المبدأ ينبغي أن يطبق على كل الجهاز الحكومي- مما يعني أن تنبني الخدمة العامة كلها على الكفاءة والحياد، ولا يمكن أن يدعي أحد أن الجهاز الذي اصطنعه التمكين تتوفر فيه الكفاءة والحياد، ولكننا لا نعمّم فنصف كل من انتمى للخدمة العامة بأنه جاء عبر سياسة التمكين، أو أنه يفتقر للكفاءة، ولكن المطلوب هو أن تتم مراجعة أوضاع كل فرد من واقع أدائه، خاصة وأن تحديات المرحلة المقبلة لا تحتمل أي تقاعس أو فشل، ومن هنا كان إصلاح الخدمة المدنية أولوية تفرض نفسها على كل وزير في وزارته، حتى يضمن سلامة تنفيذ برنامجه. ونواصل لاحقاً.
محجوب محمد صالح
صحيفة العرب القطرية
الجمعة، 30 أغسطس 2019