بنهاية المؤتمر الصحفي لرئيس الوزراء أسدلنا الستار على المرحلة الثالثة لاختيار شاغلي مناصب الدولة الجديدة. وبذات المستوى نأمل أن تكون المرحلة الرابعة لاختيار المجلس التشريعي أسرع لتعزيز مرحلتي اختيار مجلس السيادة، ورئيس الوزارة، ومجلس الوزراء. وبرغم أن اختيار الوزراء جاء بعد ولادة عسيرة إلا أننا تنفسنا الصعداء بعد شد وجذب كبيرين، إذ خلصنا إلى مشاهدة الكفاءة المشرفة تميز الشخوص الممحصين. وقد لمسنا أن هناك قدرا من الرضا عن تمثيل التعدد السوداني قد استبان. ولم يتبق إلا أن يرى – كما قال رئيس الوزراء – مواطنو النيل الأزرق، والشرق، والمسيحيون، أنفسهم في لوحة الاختيار الوطني التي أرضت قطاعات واسعة من الشعب.
صحيح أن هناك دائماً فرقا بين المثال والواقع، وصعوبة في إرضاء كل النقاد، والكتاب، والنشطاء، والمواطنين، ولكن على كل حال اجتزنا – بشكل عام – مرحلة مهمة، وحرجة، وثرية بالجدل الديموقراطي، في سبيل تحقيق مدنية السلطة بالشروط التي أفرزها التفاوض بين ممثلي الثورة والمجلس العسكري. وبينما عجزنا عن نيل كل الرغبات الثورية بالتمني إلا أننا لمسنا، أيضا، بعد اختيار الوزراء أن بلادنا مهدت ذاتها نحو الحكم الرشيد. وعليه ستكون موعودة بأن تسير نحو الطريق الصحيح لإعادة بنائها، وأن نكون قادرين لمجابهة التحديات الكبيرة. ذلك متى حرصنا على الالتزام بالديموقراطية في حلحلة قضايانا، والتزمنا بحكم قانونها، ونبذنا العنف كشرط لإقناع الغالبية، وقدرنا تقديم المصلحة العامة للبلاد على المصالح الحزبية، والشخصية، واعتمدنا على السلمية في كفاحنا المدني لنيل تأييد طوائف الشعب، واحترمنا الآخر في منطلقاته الفكرية، والسياسية، دون تخوين وطني، أو ديني، أو مناطقي، أو شخصي.
فالديموقراطية ساحة لتبادل الآراء، وليست مجالا للاستعلاء على الآخرين، وحملهم على تبني نهج فكري محدد، أو اتباع تكتيك سياسي ما، او إكراههم بالابتزاز للتخلي عن قناعة معينة. وإذا كان انتصار الثورة السلمية قد قطع مع زمان حكم العنف، أو عنف الحكم، والذي دام لثلاثة عقود فإن المرحلة الحالية قد وضعت اللبنات الأساسية لحرية المنطلقات الدينية، والفكرية، والسياسية، وأرست لسيادة حكم الأغلبية، والانحياز للكفاءات الجديرة بتحمل المسؤولية، وعذر الآخر على تبني قناعات بالية، كما نتصور. ونتيجة لهذا التقدم نحو إرساء حكم الديموقراطية لم يبق أمام كل السودانيين سوى دعم هذا المناخ السلمي للتعبير عن رؤاهم، وبذل الجهد لنشرها مهما كانت حدتها، أو خروجها عن العقل الجمعي، أو مخالفتها للإجماع المركزي.
إن المؤتمر الصحفي الذي عقده د. حمدوك أسس لعلاقة جديدة بين الشعب وسلطته المدنية، وجعلنا نقارن بين الصورة القبيحة لتعامل مسؤولي الإنقاذ مع الإعلام والشعب وبين صراحة حمدوك في إجاباته، وثراء معلوماته، واحترامه لتساؤلات الإعلاميين الذين يمثلون جسرا بين المسؤولين وعامة الناس. ولقد كنا نعيش في غيبوبة فكرية، ودينية، وإعلامية، بينما يمارس مسؤولو الإنقاذ استعلاءً مقيتاً على مواطنيهم، ويتفوهون في المؤتمرات الصحفية بعبارات غير لائقة ضد الآخر. بل شاهدنا من يقذف بالمايكرفون في وجه الذين يسألونه من المواطنين، وخلافاً لذلك كانت مؤتمراتهم الصحفية، أصلاً، محاولة لتعميق الغش السياسي، إذ يقصرون حضورها على صحفيين موالين، ورماديين، أولئك الذين لا يواجوهون قادة الدولة إلا بالأسئلة الميتة التي لا تبحث عن الحقيقة. ولكل هذا نأمل أن يتواصل نهج الحكومة لتمليك المعلومة مباشرة، وأن يكون ديدن الوزراء المختارين، وكذلك المسؤولين الجدد، التواصل مع الإعلاميين لنقل الحقائق للجماهير، ذلك قطعا لذيول الشائعات الكثيرة في زمان تسيطر فيه وسائط التواصل الاجتماعي على المتلقي.
إن وزارة حمدوك المعنية بتحقيق تطلعات الشعب في الحرية، والسلام، والعدل، محاطة بتحديات عظيمة. ويكاد المرء يشفق عليه، وعلى وزرائه، لجسامة المهام إزاء التركة المثقلة التي خلفها النظام السابق. وأيا كان حجم الآمال العريضة بعرض مكونات الثورة فإن لا إمكانية لنجاح كل هذه الكفاءات في تحقيق الإصلاح إلا إذا ساهمت في تنقية بيئة الوزارات من الفساد الإداري الذي ران عليها في الثلاثين عاما الماضية. وإذا كان رئيس الوزراء نفسه قد ركز على أمر إنجاز السلام، أكثر من مرة، كشرط لإعادة البناء فإن معالجة الخلل المؤسسي داخل بنية العمل الوزاري – وما يشمل ذلك من محسوبية، وفساد، ونهج ايديولوجي، وغياب للكفاءة، وترهل الوظائف، وفقدان المحاسبية، إلخ – يتطلب وضعه كأولوية للعلاج في سلم الاهتمامات الوزارية. بل إن الكفاءة وحدها لا تحقق إنجازا إذا لم تقترن بالفعل الثوري الذي يسهم في مساعدة الوزراء لعمل اختراق في الإصلاح الهيكلي، والمضموني، لعمل هذه الوزارت. فنحن ندرك أن خراب الثلاثة عقود مردود لابتذال وظيفة الوزير، وشهدنا جميعا كيف أن النظام وزر غير الكفوئين ما أدى إلى التخبط، والتدني، في الأداء، وتخلق جيوب المصلحة الخاصة. وسيكون من خطل التوقع إذا لم يتصور حمدوك، والوزراء الجدد، أنهم سيواجهون حربا شرسة، ومستترة، من هذه الجيوب لاستدامة مصالحها تلك، هذا لو افترضنا أنها تحمست أصلا لدعم التغيير الثوري.
عموما، لا ننسى أن نزجي الشكر لممثلي قوى الحرية والتغيير على ما بذلوا في المرحلة السابقة رغم الأخطاء التي وقعوا فيها هنا وهناك في مرحلة التفاوض، وما بعدها. ونتوقع أنه قد انتهى دور قاعدة، وقيادة، قوى الحرية والتغيير، وينبغي أن يتركوا قادة الوزارات الجديدة أحرارا لتطبيق خططهم الإصلاحية، والتنموية، وألا يفكروا في أن يمارسوا عليها تدخلات في خصائص الأعمال الوزارية من وراء حجاب. ذلك ما دمنا قد أعطينا العيش لخبازيه المهرة، فالمطلوب هو دعم مجلس الوزراء، وليس الوصاية عليه حتى لا تتخلق سلطتين متنازعتين تربك إجراءات إعادة بناء البلاد، والشواهد كثيرة في ماضينا، وفي التجارب المماثلة من حولنا.