التعقيدات الكثيرة التي صاحبت اختيار اعضاء المجلس السيادي والوزراء، والصراعات والشلليات والاعتراضات التي صاحبت عملية الاختيار ..إلخ، تفرض علينا التفكير في اعتماد طريقة جديدة للاختيار في المستقبل، سواء خلال الفترة الانتقالية أو بعد انتهائها، تنص عليها الوثيقة الدستورية ثم الدستور الدائم لاحقا، حتى نضمن ان يكون المرشح للمنصب الدستوري حسن السيرة، ومؤهلا لشغل المنصب الذى رُشح له، الأمر الذى لا يمكن التأكد منه عن طريق السيرة الذاتية فقط أو الشهادات، أو نظافة السجل الجنائي وعمليات الفحص التقليدية ..إلخ، وإنما عبر لجان معاينة برلمانية تفحص سيرة المرشح بكامل تفاصيلها، وتتلقى التحفظات والاحتجاجات والاعتراضات المكتوبة من الجمهور وتفحصها بدقة وتناقشها مع المرشح في لجنة المعاينة، بالإضافة الى مناقشة رؤيته الخاصة وبرنامج العمل للوظيفة التي سيشغلها. شيء أشبه بالمعاينات التي تجرى للمتقدمين لشغل الوظائف، أو للمرشحين لشغل المناصب الدستورية والعامة في العديد من الدول الكبرى!!
في الولايات المتحدة (مثلا) لا يمكن لأى شخص أن يشغل منصبا دستوريا، إلا بعد معاينته واستجوابه وإجازته بواسطة اللجان البرلمانية المختصة للكونجرس الأمريكي التي تنقب في كل كبيرة وصغيرة عن المرشح وتخضعه لنقاش واستجواب طويل حول كل شيء بدءا من رؤيته وبرنامجه للوظيفة وحتى ادق تفاصيل حياته الشخصية، كما يخضع المرشحون للوظائف العامة لمعاينات مماثلة في اماكن العمل، ولا يمكن لأى شخص الحصول على وظيفة (عامة أو خاصة) إلا بعد الخضوع لمعاينة والتأكد من حسن سيرته وكفاءته، ولعلكم تذكرون قضية المتدربة في البيت الأبيض (مونيكا لونيسكى) التي فشل الرئيس الأمريكي السابق (بوبى كلينتون) في العثور على وظيفة حكومية لها رغم كونه رئيس الولايات المتحدة والعلاقة الجنسية التي ربطت بينهما وكادت تتسبب في إقالته من منصبه .. تخيلوا لو كانت (مونيكا) هذه عشيقة أحد الرؤساء العرب!!
نحن في حاجة الى طريقة مماثلة لاختيار الاشخاص للمناصب الدستورية والعامة، ينص عليها الدستور والقانون تضع حدا للفوضى والصراعات والوساطات والمحاصصات والشلليات التي يشهدها سوق الوظائف العامة، وتضمن اختيار اصحاب السيرة الحسنة والكفاءة لشغل المنصب، ولا يجوز اختيار أي شخص لأى وظيفة إلا عبرها، ويُفصّل القانون واللوائح الشروط والمعايير الخاصة بها بطريقة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، ويعاقب بصرامة من يتجاوزها !!
لفت نظري خلال فترة الانتظار الطويلة للإعلان عن اسماء الوزراء بروز العديد من السلبيات منها عدم وجود معايير وشروط دقيقة للاختيار، وعدم وجود لجان تتولى فحص الترشيحات وإجازتها بشكل مؤسسي، والاعتماد على المعرفة والصداقة والشللية في الاختيار الأمر الذى ترتب عليه وجود اسماء في قوائم المرشحين أثارت الكثير من الدهشة والاعتراضات لأسباب متنوعة منها الانتماء للنظام البائد أو عدم الكفاءة التي لا يعرف لها احد تفسيرا واضحا حتى الآن .. هل هي الشهادات، هل هي الخبرة، هل هي الثورية، هل هي الظهور المتكرر في الاجهزة الاعلامية، هل هي الصلة بمجال الاختصاص أم ماذا؟!
على سبيل المثال، فلقد اختير (مدنى عباس مدنى) في القائمة الاولية كمرشح لشغل وزارة مجلس الوزراء، وتم تبرير ذلك بأنه من قوى الثورة والشخص الذى سيكون حلقة الوصل بين مجلس الوزراء وقوى الحرية والتغيير، ولكن رشحت معلومات بأن رئيس الوزراء رفض وجوده في هذا المنصب، فظهر اسمه كمرشح لوزارة التجارة والصناعة ثم تأكد تعيينه بالمرسوم الدستوري الذى تلاه رئيس مجلس الوزراء في المؤتمر الصحفي أمس، ولا يعرف أحد حتى هذه اللحظة لماذا رفض رئيس الوزراء ترشيحه لوزارة مجلس الوزراء، ولماذا تم تحويله الى وزارة التجارة والصناعة وليس الى وزارة (الشباب والرياضة) أو (العمل والتنمية الاجتماعية) مثلا، ولماذا الإصرار عليه ضمن الطاقم الوزاري اذا صح رفض رئيس الوزراء له؟!
كان من الممكن ان نتجنب الكثير من التعقيدات التي صاحبت اختيار الطاقم الوزاري، لو كانت لدينا آلية دستورية معينة للاختيار للمناصب الدستورية والوظائف العامة واضحة المعالم وافية التفاصيل ينص عليها الدستور ويفصلها القانون، تعفينا من الاجتهاد الشخصي وتضمن توفر المعايير المطلوبة في المرشحين، وتحمى المصلحة العامة، بالإضافة الى وظيفتها كحائط صد يمنع الكثيرين من التقدم للوظائف العامة خشية ان تتكشف مثالبهم وعرواتهم وينفضح امرهم، الأمر الذى يحمى الوظيفة العامة من تسلل الفاسدين ويوفر الجهد والوقت الذى يضيع في التمحيص والاختيار !!