الخرطوم – التحرير:
رحيل الشاعر الغنائي الكبير حسين بازرعة أحدث صدمة واسعة، لأكثر من سبب، فهو إلى جانب شاعريته الفذة، التي تجلت في الأغنيات الخالدة التي كتبها، كان طريح فراش المرض فترة طويلة، وهذا ما دفع كثيرين ليقولوا إن الوفاء لم يعدّ موجوداً، وألقى المبدعون الذين التقتهم (التحرير) باللائمة على الدولة التي ظلت كما قالوا تقف موقف “المتفرج”، ولم تقدم الدعم والسند لعلاج رمز من رموز الغناء في البلاد.
الحلنقي (يمين) التجاني حاج موسى (يسار)
الحلنقي: لم نجد فرصة لوداعه
الشاعر إسحق الحلنقي قال إن معاناة الشاعر الكبير حسين بازرعة استمرت زمنا طويلاً، ولم تحرك الجهات المسؤولة ساكناً. كنت أتوقع أن يصدر قرار حكومي بعلاجه خارج السودان؛ تكريماً لكل الجمال الذي ظل يقدمه لنا على مدى سنوات طويلة، وكنت أتعشم أن يتم هذا، لكنها مشيئة الله. قبل أيام كتبت في زوايتي في صحيفة “آخر لحظة” منبهاً المسؤولين عن الشأن الثقافي بضرورة تكريمه، أو حتى زيارته كما درج الناس أن يفعلوا ذلك في شهر رمضان الذي يجمع ويجتمع فيه الأحبة، إلا أن صوتي لم يك مسموعاَ، وتمنيت أن يكرم بازرعة في حياته قبل مماته، لكنها العادة السودانية دائماً ما نكرم المبدع بعد رحيله، لذلك أرجو أن يبادر الناس إلى تكريم المبدعين قبل رحيلهم، لا أن نتباكى عليهم، ونتأسف على عدم الوفاء لهم، كما حدث لهذا القامة الفنية.
ويمضي الحلنقي في القول: “لم التق بازرعة في حياتي، لكنني تربيت على شعره، وظللت أسميه قيصر الغناء السوداني. أشعر بالحزن؛ لأننا لم نجد فرصة لوداعه. بازرعة من الشعراء الذين نقلوا الغناء الحديث نفسه إلى حداثة أجمل في الرؤى والظلال التي كان يرسمها على لوحته الغنائية، رحمه الله رحمة واسعة.
التجاني حاج موسى: أنا من مدرسة هذا الرجل
الشاعر التجاني حاج موسى قال في حديثه لـ (التحرير): “غادرنا إلى الدار الباقية أحد أساتذتي الأجلاء، الذين لقنونا الشعر الجميل، الشاعر الكبير حسين بازرعة؛ وأحسب أن الله تعالى سيتقبله قبولاً حسناً؛ لأنه كان طيباً محباً للناس، ومغنياً للحب، والقيم الفاضلة، التي تدعو إليها الأديان، وأشهد الله أنني منذ حداثة عمري وأنا أعالج الشعر، كنت أقف مشدوهاً أمام اللوحات الرائعة التي نظمها هذا المبدع العظيم الذي رحل عنا اليوم، وبالتاكيد لكل مبدع امتداد يتخذه المبدعون وأنا أرى نفسي من مدرسة هذا الرجل. بازرعة خلد نفسه بالروائع التي قدمها مع رفيق دربه الذي شكل معه ثنائية الهرم الراحل الفنان عثمان حسين، لا نعرف ما نقوله عن مبدع في قامة أمة إلا أن ندعو له بالرحمة، وأن يتقبله الله قبولاً حسناً.
علي مهدي (يمين) محمد نجيب (يسار)
علي مهدي: كانت الصورة عنده واسعه
عرفت بازرعة في السنوات الأخيرة عقب عودته من الاغتراب، وكان الجسر بيني وبينه الفنان القامة الراحل عثمان حسين الذي كانت تربطني به علاقات صداقة متينة.
وكان السبب في معرفتي بالراحل بازرعة صديقه وصديقي نصرالدين شلقامي. في تلك الفترة كنت قد إتفقت مع الأخ الراحل عثمان حسين لتسجيل حلقات معه في الإذاعة، وفي يوم من تلك الأيام فاجأني عثمان بإصراره على السفر إلى بورتسودان لمقابلة بازرعة، الذي كان قد عاد إلى البلاد قبلها بأيام قليلة؛ حاولت أن أقنعه بتأجيل السفر إلا أنني فشلت أمام أصراره، وقد أخبرني بأنه ذاهب لتسليم بازرعة مبلغاً من المال كان يحتفظ به، وهو عن استحقاق أغنيات سجلها للإذاعة، وكتبها بازرعة. بعدها جاء بازرعة إلى الخرطوم، والتقينا ودارت بيننا حوارات ونقاشات طويلة، وأذكر أنني سألته مرة عما يشاع حول أن كل أغنياته قصص تخص حياته الشخصية، فقال لي: “لو كنت بحب قدر غناي ده كلو ما كان عجزته”، وكان عليه الرحمة قليل الكلام، ورقيقاً، وصادقاً في تفسيره للمشاعر، واستطاع أن يساهم بذلك في تغيير الوجدان السوداني؛ وكانت الصورة عنده واسعة، وعلى الرغم من بعده عن السودان إلا أنه كما قال لي عندما يكتب كانت كل مشاهد الخرطوم وبورتسودان بضجيجها وأنديتها وأزقتها حاضرة أمامه.
محمد نجيب : تعلمت منه أن العشق صحة للإنسان
أما الشاعر والناقد محمد نجيب محمد علي فقال: “إن بازرعة من أعمدة الأغنية السودانية المعاصرة، وهو أحد المجددين في كتابتها، وهو من جيل الوصل الذي نقل الأغنية من الحقيبة إلى الأغنية المعاصرة؛ ومايميزه أنه كتب الشعر الفصيح والعامي، وارتبطت كتابته بتجربته الحياتية ما أكسبها الصدق بكل أبعاده، بازرعة عاش عاشقاً، وأغنية قصتنا التي تغنى بها عثمان حسين تشي بالكثير؛ إذ إن هذه التجربة العاطفية التي ملكت وجدانه جعلته يختار الاغتراب والهجرة على مدى تجاوز الأربعين عاماً، وهو صاحب قصص عظيمة خلدها بأشعاره، وبازرعة نقل الأغنية إلى مدارات جديدة، وتناول في كتاباته عدداً من الموضوعات التي شكلت وجدان الشعب السوداني، خصوصاً الثنائية التي شكلها مع عثمان حسين فهي ستظل متكأً لكل الأجيال؛ لكونها أغنيات متجددة غير مرهونة بزمن أو مكان لأنهما اجتمعا على أكثر من وطن، وبازرعة كان محباً للإنسان في كل البقاع. كتب عن فلسطين برؤى إنسانية عظيمة، وعرف عنه نبوغه الشعري المبكر، فقد كتب الشعر منذ أن كان طالباً في المرحلة الثانوية، ربما أكون عاشقاً مثله، وتعلمت منه أن العشق صحة للإنسان”.
علم الدين حامد (يمين) عمر إحساس (يسار)
علم الدين حامد: لامس وجدان الناس ومشاعرهم
الإذاعي علم الدين حامد يرى أن بازرعة هو الشاعرالذي لامس وجدان الناس ومشاعرهم، وإنه كان يكتب شعراً سهلاً، وبدفق حار ودافىء، لهذا امتلك ناصية الحب عند المستمعين كلهم دون استثناء، وخلق تأثيراً بالغاً، بل غير مجرى كثيرين، وبدل أحوالهم إلى مراقى المحبة.
يقول علم الدين: “زرته مرة واحدة في حياتي، وكان بصحبته الأمير السعودي الشاعر عبدالله الفيصل، الذي كان صديفاً مقرباً له، واثناء حديثي معه كشف لي عن حبه غير المحدود للفنان عثمان حسين الذي كان يبادله نفس المحبة’ لذلك شكلا ثنائية فريدة”.
عمر إحساس: من الشعراء الذين جملوا حياتنا
الفنان عمر إحساس قال: “إن بازرعة شاعر يتميز بكتابة الشعر الفصيح والعامي، وهو من الشعراء الذين جملوا حياتنا، وهو صاحب أشعار ملحنة في أصلها، والثنائية التي خلقها مع عثمان حسين أحدثت نقلة كبيرة، وعبرا بنا إلى فضاءات جمالية أكثر اتساقاً وإبداعاً؛ لذا كتبت لأعمالهما الخلود”.
ويمضي إحساس في القول: “التقيته مرة واحدة في محفل عام، عرفته بنفسي، وعلمت منه أنه متابع لمسيرتي الفنية. بازرعة شكل وجداننا، لأنه قدم لنا الدرر”.