على الرغم من وجود شخصية تتوافر على كفاءة كبيرة، وخبرة واسعة على رأس وزارة الإعلام والثقافة، كالأستاذ فيصل محمد صالح، وزير الإعلام في الحكومة الانتقالية الجديدة، إلا أنه، في تقديرنا، هناك ضرورة إلى تخصيص وزارة مستقلة تعنى بشؤون الثقافة في السودان.
ذلك أن ما تم خلال 30 عاماً من الحكم الانقلابي للإسلاميين، لم يكن تعبيراً سياسوياً عن تدابير حكم ديكتاتوري فحسب، بل كان كذلك تعبيراً عن رؤية إيديولوجية للحياة برسم تأويلات الإسلام السياسي، التي لطالما راهن عليها حسن الترابي منذ زمن بعيد، شارحاً ومخططاً ومعولاً على الإعلام والتعليم لتنزيل أحكام الإسلام على واقع المجتمع (كما كان يحلو له أن يعبر).
وذلك ما تم لاحقاً بعد الانقلاب المشؤوم لعمر البشير عام 1989، حين أنشأ نظام الإنقاذ ما سمي وزارة “التخطيط الاجتماعي” التي كان على رأسها علي عثمان محمد طه في النصف الأول من التسعينيات. وكان هدف هذه الوزارة هو إعادة صياغة الإنسان السوداني، وهي صياغة تعني ابتداءً وجود خلل بنيوي في عقيدة السودانيين وملامح لحياة جاهلية لا بد من إعادة صياغتها لتتفق مع النموذج الإسلامي، الذي تتصوره الحركة الإسلامية للمجتمع السوداني.
منذ بداية انقلاب الإنقاذ عام 1989، لم تكن خطورة القطيعة الإسلاموية في تجريبها السياسي الفج (على مافيه من كوارث) فحسب، بل كانت، وبالأساس، في التبشير بفرض رؤية إسلاموية مؤدلجة لنمط حياة ينبغي أن يعيشه السودانيون. نمط يقوم بالأساس، بحسب الأدلوجة الإسلاموية، على تسفيه واحتقار حياة تاريخية كانت للسودانيين قبل عام 1989 بوصفها حياة جاهلية.
فحياة السودانيين تلك، قبل عام 1989، المراد استبدالها بصيغة إسلاموية مؤدلجة، كان الإسلام جزءاً أصيلاً منها، ولكنها، في الوقت ذاته كانت صيغة للعيش في إطار هوية قابلة للاكتمال وفق مجريات وقائعها الدنيوية المتفاعلة مع العالم الحديث، عبر حياة وطنية عامة: أحزاب سياسية، اتجاهات متنوعة في الآداب والفنون، حياة منفتحة على الذات والعالم.
لقد كانت تلك الحياة السودانية ــ على الرغم ما فيها من إشكالات قابلة للعقلنة والحلول ــ هدفاً للاستبدال في الجهاز والمشروع الأيديولوجي الجديد للإسلامويين.
بمعنى آخر، إن صيغة إيديولوجيا الحركة الإسلامية في رؤيتها لنمط الحياة المفترضة للسودانيين، عبر خيالها المريض ذاك، (بحسب دعاوى مقولة غامضة أطلق عليها الترابي اسم: المشروع الحضاري وصمم لها زارة باسم التخطيط الاجتماعي) كانت صيغة كاملة لتسميم مستقبل الحياة في السودان، على مدى 30 عاماً. ومن طبيعة السم أنه يشوه قابلية الإنسان للعيش السوي ويضعه باستمرار في حالة من العطب بين الموت والحياة.
لقد تكشف الواقع الكئيب، بعد 30 عاماً، من تجريب وفرض ممارسات أنماط الرؤية الإسلاموية المؤدلجة على السودانيين، من طريق ملكي للخراب في كل شيء تقريباً: تدمير الهوية الوطنية، انتشار الفساد، تقسيم البلاد، تعطيل الذوق العام. أي لقد اكتشف الإسلامويون أن ما بشروا به من صيغة مؤدلجة لحياة السودانيين لم يكن هو الإسلام، بل كان شيئاً عقيماً في عقولهم، شيئاً قديماً ومدمراً، ولا علاقة له بالإسلام وقيمه الحقة.
لقد وجدوا أنفسهم أمام تفسخ كامل للحياة في السودان. لكنهم على الرغم من ذلك، استمرأوا في التمرغ في ذلك الخراب المتفسخ واستطابوا ممارسات إدمان سلطة عارية تبيع كل شيء: الدين، الوطن، القيمة من أجل مصالحها المادية فقط.
هكذا، يمكن القول إن القدرة على رؤية ذلك المصير الكارثي لمآل المشروع الحضاري على السودانيين كان مبكراً نسبياً، منذ أن دافع أمين حسن عمر في أواسط التسعينيات (حين كان مديراً للتلفزيون) عن إعادة كثير من المسلسلات التلفزيونية المصرية إلى البث في التلفزيون السوداني، بعدم وجود مسلسلات سودانية إسلامية (يقصد إسلاموية).
والحقيقة، أن أمين حسن عمر كان يقصد تعذر وجود مسلسلات إسلاموية (مستحيلة بالضرورة) ويمكننا أن نضيف أنه ليس تعذر مسلسلات إسلاموية فحسب، بل كذلك: شعر إسلاموي ومسرح إسلاموي وفن إسلاموي وإلخ…
التفريق هنا بين الإسلاموية والإسلامية ضرورة منهجية. فحين نقول مسلسلات أو أفلاماً إسلامية فنحن نعني مسلسلات ينتجها المسلمون بكل طوائفهم ومذاهبهم، في المجال الديني كفيلم “الرسالة” والمسلسلات الإسلامية التاريخية، مثلاً، لأن الإسلام حينها يكون دين الجميع. أما الإسلاموية فهي انشقاق إيديولوجي في أصل الإسلام ذاته وينشأ عن ممارستها بالضرورة انقسامات قائمة على الإقصاء والتهميش والانعزالية. فضلاً عن تعذر إنتاج فنون شعرية أو مسرحية أو درامية بتلك الصيغة الإسلاموية المؤدلجة والفقيرة.
لكل ما قدمنا، نتصور، أن هناك ضرورة ملحة لوزارة مستقلة للثقافة، تشتغل على وضع خطط وسياسات ثقافية سودانية شاملة ومتنوعة، ومنتجة في الوقت ذاته لمفاهيم نظرية معرفية جديدة تتناول قضايا، كالدين والهوية والمواطنة والتنوع والذات والآخر والتاريخ الثقافي للسودانيين وغيرها، عبر رؤى وتصورات ودراسات وأبحاث تختبر مبادئ تفسيرية جديدة لتلك المفاهيم، وتحشد للمهام الفكرية والثقافية في الوزارة خيرة المفكرين والمبدعين السودانيين لتغذية الأجهزة الإعلامية والوزارات المختلفة (لاسيما وزارتي التعليم والإعلام) بالبرامج والنظم الثقافية التي تعكس للجميع هوية سودانية متصالحة مع الذات والعالم عبر مبادئ المواطنة والحرية والحوار كآلية اتصالية وحيدة لإدارة الاختلاف بين السودانيين جميعاً.
وبكل تأكيد ينبغي أن تكون الهوية المعرفية (لا الإيديولوجية) في بنية وزارة الثقافة هي الأساس الذي تقوم عليه مشروعات العمل الثقافي وخططه وسياساته.
ذلك، وحده، ما يمكن أن ينهض لمواجهة الخراب العميم الذي أحدثه المشروع الحضاري للإسلامويين عبر وزارة التخطيط الاجتماعي في العهد البائد، لأن ذلك الخراب الذي تمثل في سياسات ورؤى إيديولوجية استمرت 30 عاماً، لا بد أن تكون له مفاعيل خطيرة ومستمرة في أذهان الكثيرين. فسقوط المشروع الإيديولوجي للإسلامويين سياسياً، لا يعني بالضرورة سقوطه في الأذهان والتصورات المتصلة بتعبيرات المجتمع وعادات الناس.
هذا إلى جانب مهام أخرى لوزارة الثقافة، تتصل بوضع مشاريع البنى التحتية والمادية لأجهزة الدولة، كالمؤسسات الثقافية والمكتبات العامة والأندية الثقافية وإدارة العلاقات الثقافية الخارجية، وتنظيم مهرجانات الإبداع في البلاد. واعتماد بنية شبكية للعمل الثقافي وسياساته ومؤسساته في جميع أقاليم السودان ومدنه.
وأخيراً، إذا كنا، بطبيعة الحال، لا نعني بتنظيم وزارة الثقافة للأعمال والسياسات الثقافية، تدخلاً للدولة عبر جهاز إيديولوجي، أو من أجل بروباغندا سياسية مماثلة لنظام الإنقاذ، فإننا، في الوقت ذاته، لا نقترح تصورات مثالية لتقليد آخر ما وصلت إليه الحياة الثقافية للغرب في لحظتها الراهنة (وهي لحظة نخطئ خطأً عظيماً إذا اعتقدنا أننا نتماهى معها، الآن وهنا، لأنها في الأصل ذروة تراكمية لتدخل حر وعقلاني للدولة الديمقراطية في إدارة الإبداع والتنوع على مدى سنين طويلة). وبكل تأكيد، في وسع وزارة الثقافة المرجوّة (إذا توافرت على نخبة متنوعة لمفكرين ومبدعين وفنانين يؤمنون بالحرية والحوار والمواطنة) أن تشق طريقها لوضع تصورات وسياسات ثقافية تأسيسية للحياة العامة، تنسجم مع متطلبات المرحلة الانتقالية وتحدياتها.
عن إندبندنت عربية