أيمن محمد عبد السلام دفع الله
إلى عَازّة
حدث ما كانت تخشاه، فرفعت يدها بسرعة، وسرت الرعشة المشوبة بالسخونة؛ تشق طريقها نحو قلبها الضعيف، فأحست بالمزيد من الضعف.
لم تشأ أن تعيد الكرة فيزداد حزنها، بل أنها سعت لتكذيب الأمر، وكأن هذه اليد التي ارتعشت كيدٍ عجوز؛ لم تكن يدها الأربعينية، لكنها لم تستطع المقاومة، بدا أن هناك ما يجذب يدها كمغنطيس قوي نحوه جبهته الصغيرة، ودون أن تُحس أعادت الكرة مجدداً، وضعت يدها ببطء على جبهته فانفطر قلبها من جديد، ومثل المرة السابقة خرقت الرعشة الساخنة قلبها.
تذكرت كلام جارتها العجوز: “ستداهمه الحمى أولا، ثم سيموت”.
رفعت بصرها نحو سقف الغرفة؛ الذي اقتلعته الرياح قبل أيام، ورأت السماء صافية، النجوم تلمع ببريق زائد، وهناك سحب تتوزع في الأرجاء، لكنها شعرت بيأس شديد، وراحت تحدث روحها؛ التي أبت الفكاك عن جسدها المتعب، لماذا لست أنا، أولا تكفي كل هذه السنوات المتعبة التي أثقلت كاهلي، لماذا كلهم ولست أنا، لماذا يداهم هذا الموت المر كل من حولها ويستثنيها، نظرت مجدداً نحو السقف، كم هو ضعيف، لو أن عبدالجبار، زوجها، ما زال حيا لا شك كان سيصلحه، لكن الآن لا أحد سيصلحه، ولا أحد سيدفع المال للذهاب إلى المستشفى الذي يبعد سبع كيلومترات عن هذا الحي البائس.
تذكرته مجدداً، عبدالجبار، ربما عليها الاعتراف من حين لآخر، لتريح ضميرها المتعب قليلاً، لذلك لا ضير من قولها، لقد كانت حمقاء، لقد فرطت فيه بسهولة، لو أنها بذلت المزيد من الجهد وحصلت على المال، لما مات بتلك السهولة، قال الطبيب أنه يحتاج لجراحة في القلب، لكن لو اجتهدت أكثر كم الوقت يكفي لتجمع المال؟
تراودها الآن الكثير من الأفكار حول عبدالجبار، ماذا لو كان قلبه صبوراً قليلاً، ذلك القلب الذي يتسع للجميع، يضمهم بحنان وله قدرة لا متناهية على المسامحة، ربما لتغيَر الوضع الآن، وربما استطاع أن يأتي بالطبيب، لكن أي طبيب سيرضى أن يدخل إلى هذا البيت الهزيل؟ انه بلا سقف حتى!
لن تنسى ابتسامته الطيبة، وشعرت بالندم مجدداً فلم تكن قد أخبرته بجمال ابتسامته من قبل.
تضع يدها من جديد على جبهة الطفل الصغيرة، تتوهم قليلاً أن الحرارة قد انخفضت، لكنها عندما تنظر نحو وجهه الشاحب توقن ألّا شيء قد جد، وتتذكر كلام الجارة من جديد: “ابن قريبتي مات بذات الطريقة”.
لماذا تصر هذه الجارة على أن الصبي سيموت وأن علته لا فكاك منها؟ ما هذا التشاؤم المقيت؟ وتعود الدموع المرة بالانهمار من جديد، وهذه المرة تحاول أن تكفف دموعها براحتيها، سمعت طرقاً على الباب، الطفل الصغير الذي يرتدي ملابس بالية يمد إليها كيساً ويقول: “أمي تخبرك أن تبخريه بهذه الأعشاب”.
أحست أن هذه الأعشاب ستعيد طفلها إلى حياته الطبيعية، أم سعيد لا تخطئ الوصفات، انها أفضل من يعالج بالأعشاب في هذا الحي، أخذت قبضة بيدها ووضعتها داخل إناء ثم طحنتها بيدها، أعدّت المبخر ووضعت عليه القليل من الفحم، ونثرت عليه العشب الجاف فتصاعد دخانه هارباً عبر السقف المفتوح، حركت المبخر في حركة دائرية حول رأس الطفل ورأته يتململ تحت أبخرة الدخان فأحست بالسعادة، أخيراً سيفيق ولدي الحبيب، لكنه بدأ يسعل بعنف، ذلك السعال أفقدها صوابها فرمت المبخر أرضا، وأسرعت في اطفاءه، وكأن شيئا لم يكن، فعادت من جديد إلى حزنها الأول، وعادت سُحب الكآبة تطوف فوق رأسها من جديد وقالت: “لا أمل، أم سعيد دجالة فقط”.
السخونة تتصاعد وقلبها يدق بقوة، ملأها الخوف حد الاختناق به، فصارت أنفاسها ساخنة ذات صوت شاحب، وبدأ اليأس يغازل ذلك الأمل الصغير الذي يلوح برقه بين الفينة والأخرى عندما يحرك الصغير ذراعه أو رأسه.
لا تعرف ماذا أصابه، قبل يومين كان بصحة جيدة، يجري برفقة صبية الحي كغزال شارد، يتسلق بيوت الطين ثم يقفز من على سقوفها، يسبح في ماء المطر برشاقة كأسماك النيل.
تذكرت فجأة أن بطن صغيرها لم تذق الطعام منذ ليلة البارحة، أحست بالرعب، كيف لم تفطن لأمر كهذا، كيف لها أن تنشغل بالألم وتنسى بطن صغيرها الفارغ، نهضت مسرعة تبحث عن طعام بين المواعين، لم يكن هناك أكل، وكأن هذه الغرفة لم يدخلها طعام من قبل، وتذكرت أنها لم تخرج لجلب الطعام منذ يومين، منذ أن عاد طفلها وهو يترنح، حين جاءت جارتها لتخبرها أخبار الشؤم، وتذكرت قولها وهي تودعها آخر النهار: “في نهاية الأمر سيموت كما فعل ابن سعدية”.
في السابق كانت تخرج عند مغيب الشمس، تطوي الطرقات خلفها وكأنها مهاجرة، تخترق الأسواق باكراً مثل أشعة الشمس، تبحث عن الفتات الذي يسقطه المارة، وبقايا الطعام التي يلقيها المتسوقون في مكبات النفاية، ولا تنسى المرور بسوق الخضار، لتلتقط بعض حبات الطماطم التي تتدحرج فالتة من بين يدي الخضارجي، ترفعها بسرعة ثم تمسحها من الطين، وتلوذ بالفرار.
وتذكرت أنها خلال اليومين الماضيين لم تذق سوى طعم الماء، عندما تتحرك تحس بأنها زير ممتلئ، لا شيء داخله سوى الماء، من فورها وضعت الخمار على رأسها، خرجت تطرق أبواب جاراتها اللئيمات، لم يكن لإحداهن أن تفرط في قطعة طعام، فلا أحد يعرف ماذا يحمل له الغد، الأفضل عندهم أن يموت أطفال الآخرين دون أن يموتوا هم.
في نهاية المطاف عادت وهي تحمل قطعة خبز صغيرة، لا تكفي أن تسكت بطن رضيع عن النواح، وضعتها في ماعون صغير ثم صبت فيها الماء، عجنتها جيداً ثم صبتها داخل فمه، لم يكن يستسيغ شيئاً، لكنه ابتلعها على كل حال.
وضعت يدها مجدداً فوق جبهته، الحرارة ما تزال مرتفعة، وهناك طرق خفيف على الباب لم يصمت منذ مدة، نهضت متثاقلة لتفتح الباب، انه ابن أم سعيد مجدداً، يحمل في يده كيساً صغيراً، مده وقال: “تقول لك أمي أن هذا آخر ما لديها، وليكن الله في عونكم”.
أيقنت أن أدوية أم سعيد لا تفعل شيئا، لكنها لابد وأن تتعلق بكل قشة أمل، وستفعل كل شيء لا منطقي ليعيش ولدها الصغير.
أفرغت محتوى الكيس في إناء صغير، صبت عليه الماء ثم صبته داخل فمه، شربه بسرعة لكنه سرعان ما استفرغه، وكان عجين الخبز الذي شربه قبل قليل يخرج أيضاً، لم يكن قد هضمه بعد، فصبت لعناتها المتلاحقة على أم سعيد، وتمنت لو أنها اكتفت باطعامه عجين الخبز فقط.
بدأ الطفل يرفس بقدمه، أنفاسه تشهق بشدة، وكأن الهواء قد انعدم داخل الغرفة، هذه المرة أحست أن عليها أن تفعل ما هو أكثر من الانتظار، خرجت تجري في الشارع وقد نسيت خمارها، جعلت تصرخ: “أنقذوا طفلي، سيموت طفلي”، ثم سقطت على الأرض، ولم يكن بيَد الجارات شيء سوى التجمع حولها، بدأن التنظير حول مرض طفلها، أكثرهن قلن أنه مات، وأقلهن تشاؤماً قلن أنه ربما يموت بحلول الغد.
جاء بعض الرجال وحملوها مجدداً الى الغرفة، وضعوها على عجالة وانصرفوا، أفاقت قليلا ونظرت نحو طفلها، كان ما يزال يرفس ويشهق، تأكدت تماما أنه يلفظ الروح الآن، تمنت لو أنها تستطيع أن تحمل عنه كل هذا الشقاء، لقد جعلتها السنوات الماضية أكثر قوة وجلداً، لكن الآن الأمور لا تسير كما يجب، كل شيء في هذا العالم لا يسير كما نحب، إنه فقط يفعل ما يفعل وكأنه حجر نرد لا تعلم أي وجه سيقع لك، وأحست أن الهواء في صدرها يختنق بها، فيخرج مهموماً ومسرعاً نحو الخارج، كل عضو في جسدها يشتكي كطفل صغير، وداهمها صداع عنيف، كأن مطرقة كبيرة تطرق رأسها بقوة، نظرت نحو طفلها مجدداً، لم تكن تدري انها ستكون نظرتها الأخيرة الى تلك العيون الصغيرة الضاجة بالحياة.
ورأت ما لن تتمنى أم رؤيته حتى الممات، رأت انطفاء النور المتقد داخل عيني طفلها، انطفأ الى الأبد، بلا أمل، أو بصيص، ظلام، فقط، تجمعت السحب فوقهم فجأة ثم بدأت تذرف ماؤها، واختفت النجوم من على صفحة السماء يكسوها الخجل، عزاؤها الوحيد أن عينا الطفل لن تنهش جسدها المتقد مجدداً، وأن روحه الطيبة ترتقي أبواب السماء، هناك حيث لن يجوع مجدداً، لن يمرض ولن تغتاله أيد آثمة، لن يأكل قوته رجل شبعان، بالطبع ستتكفل الأرض بابتلاع جسده الصغير.
نزلت الدموع غزيرة عابرة خديها الحزينين، مختلطة بماء المطر العالق على وجهها، وتأكد لها الآن أن فلذة كبدها قد مات، والذي أمامها الآن لا يعدو أن يكون قطعة لحم فقط، ساعتها أغمضت عينيه بيد مرتعشة، غطته بالملاءة .. ثم أطلقت العويل.
*القصة فائزة بجائزة محمد سعيد ناود للقصة القصيرة 2019م.
محمد سعيد ناود
هو رائد الرواية المكتوبة بالعربية في الأدب الإرتري الحديث. كانت روايته “رحلة الشتاء ” (صدرت في بيروت في سبعينات القرن الماضي)؛ أول عمل روائي كتب باللغة العربية في الأدب الإرتري، إلى جانب عدد من المؤلفات المتنوعة. توفي ناود بمدينة أسمرا في 16 سبتمبر 2010م.