كان امتناع السياسة في السودان لـ 30 عاماً منذ انقلاب البشير – الترابي عام 1989 (بكف قدرتها على أن تكون أفقاً لسباق مفتوح ومجالاً عمومياً في إدارة قضايا الواقع المعيشي عبر حراك حزبي مشروع)، جزءًا مزيجاً من الأوهام والشعارات والأيديولوجيا التي عكست قمعاً وفساداً، تحوَّل به امتناع السياسة إلى استحالة لها. ولأن السياسة كالطبيعة لا تقبل الفراغ، ظل مناخ الاستبداد قادراً على توليد كيانات مشوهة، نشأت على هامش تدمير البنية السياسية للأحزاب.
فمن جهة، كانت القنابل الزمنية للتهميش والإهمال في أطراف السودان، قد أنضجت شروط انفجارها على شكل حركات الهامش العنيفة، ومن جهة ثانية كانت الطبيعة المناطقية والأقوامية هي السمت الذي انعكست عليه التعبيرات السياسية.
وإزاء واقع كهذا، استثمر النظام البائد للإنقاذ في البنى القديمة كالقبائل، ثم حوّل نظم الإدراك التي تقوم عليها هذه الأخيرة إلى هوية للسياسة، فأفسد السياسة والقبيلة معاً، إلى جانب خصخصة الدين بتسييسه، من قبل، في مشروع الإسلام السياسي والحركة الإسلامية.
اليوم، بعد سقوط الإنقاذ، بدت الساحة السياسية مفتوحة على الفراغ، لأن أيديولوجيا الإسلام السياسي (الذي جلب إلى السياسة أشياء قديمة ومدمرة) كان قد فتّت الأحزاب السودانية الكبيرة وجعل منها جماعات مشتّتة.
قراءة المصائر الحزبية في خريطة المستقبل السياسي للسودان على ضوء الحاضر، لا تعكس هوية واضحة لذلك المستقبل، بخاصة حيال الأحزاب التقليدية من ناحية، كحزبَيْ الأمة والاتحادي، والأحزاب العقائدية من ناحية ثانية، كالإسلاميين والشيوعي. ثمة كتلة شبابية هي اليوم مادة الثورة التي عبرَّت عن نفسها بعنفوان كبير خلال أشهر الحراك الثوري، والتي لا تزال تعكس وعياً عميقاً بقيمة الحراك العام، وإن كانت حركات الشباب هذه حتى الآن شبه عازفة عن التحزيب للطبيعة، التي عبّرت عنها الأحزاب السودانية خلال أدائها القديم الذي لا يعكس رشداً في العمل السياسي.
تسييس الكتلة الشبابية واستيعابها في منظومة عمل سياسي، يتطلب جهوداً كبيرة من المنظرين السياسيين، وسيتعين على هؤلاء أولاً: تبيين فك الارتباط في وعي هؤلاء الشباب بين الهوية السياسية للحزب، وبين الأحزاب السودانية في ذاتها، أي بين إدراك ضرورة الأحزاب كرافعة للعمل السياسي وهوية لطاقته في المجال العام، وبين الهرج السياسي لمحازبين شوّهوا طبيعة السياسة عبر سنوات طويلة من امتناعها.
وفيما تبدو الساحة السياسية ميداناً لتجديد العمل الحزبي خلال الفترة الانتقالية التي ستمتد لثلاث سنوات مقبلة، برز نموذج حزبي جديد، هو حزب المؤتمر السوداني بقيادة المهندس عمر الدقير، وهو حزب يمثل يسار الوسط، ويعكس تخففاً من الأيديولوجيا، خصوصاً عبر استلهام تجربة ذاتية للوطنية السودانية تمثلت في “مؤتمر الخريجين”، الذي هو أول كيان سياسي حديث للسودانيين تأسس عام 1938 والذي استلهم بدوره، تجربة حزب المؤتمر الهندي الذي أسسه غاندي.
حيوية حزب المؤتمر السوداني وخطابه الوسطي، يعكسان وعداً بتجربة جديدة في الساحة الحزبية السودانية، وبكل تأكيد سيكون لها ما بعدها، بخاصة مع جولة رئيس حزب المؤتمر السوداني في الفترة الأخيرة لإقليم شرق السودان، أكثر إقليم لقي تهميشاً دون أقاليم السودان الأخرى.
كما يمكن القول إنّ حزب التجمع الاتحادي الذي تشكلت هياكله قبل شهر، هو بمثابة تجربة مطورة ومتحررة من تقليدية الحزب الاتحادي الديمقراطي القديم وطائفيته، ويمكن لهذا الحزب أن يشكل هوية سياسية جديدة (يمين وسط) في السياسة السودانية مقابل يسار الوسط “المؤتمر السوداني”.
حزب التجمع الاتحادي، أفرز قيادات ثورية شبابية لامعة، مثل الدكتور محمد ناجي الأصم (الذي ألقى الخطاب التاريخي لقوى الحرية والتغيير في حفل التوقيع على الإعلان الدستوري يوم 17 أغسطس)، وكذلك عضو مجلس السيادة الشاب محمد الفكي سليمان، إلى جانب بابكر فيصل وهو مفكر شاب مستنير، يتولى اليوم القيادة التنسيقية لحزب “التجمع الاتحادي” إلى حين قيام المؤتمر الجامع.
هذان الحزبان قد يعكسان ملامح جديدة للعمل السياسي في الفترة الانتقالية المقبلة وربما سيكون في أدائهما ما يلهم الشباب في الالتحاق بالعمل السياسي.
وفي كل الأحوال، مخاض المرحلة الانتقالية، إذا لم يتطور باتجاه استيعاب وافٍ لتسليك شباب الثورة في منظومة سياسية تعكس إرادتهم لترجمة أهدافها في مخرجات قادرة على صناعة المستقبل السياسي للبلاد، سواءً عبر انتظامهم في هذين الحزبين الواعدين “المؤتمر السوداني” و”التجمع الاتحادي” أو في اتجاه تأسيس حزبي جديد يؤطر رؤاهم السياسية (وهو ما كان مدار نقاش وتفكير نظري بيني وبين الأستاذ محمد الحسن التعايشي عضو المجلس السيادي حالياً)، فإن إمكانية عودة الإسلاميين عبر لافتات جديدة، بعد المرحلة الانتقالية، قد لا يحول دونها أداء الأحزاب التقليدية.
بطبيعة الحال، نتصور أن في تأويلات معاني الإسلام، وفي المساحة التي يمكن أن يستثمرها الإسلاميون الجدد عبر المساجد وعبر خطب الجمعة (مالم تُسنّ تشريعات صارمة تمنع تسييس الدين)، ما يمكن أن يضخ روحاً جديدة لعودتهم.
فلا تزال “الحجة الخلابة” أن فشل التجريب لا يعني فشل النموذج (لأن النموذج هو الإسلام كما يسوقون للناس) قابلة للترويج، إذا لم يكن هناك تعميم لوعي نقدي حقيقي بحجج راسخة للفقه المقاصدي، يؤكد للناس أن منظور الإسلام السياسي الذي ابتدعه حسن البنا في القرن الـ 20 هو نموذج مأزوم نظرياً في أصله قبل أن يكون مأزوماً عملياً.
بطبيعة الحال، ستكون المرحلة الانتقالية وما بعدها، اختباراً حقيقياً وكاشفاً لأوزان الأحزاب المناطقية والحركات المسلحة (التي عكست ممارساتها أزمة السياسة وامتناعها طوال 30 عاماً من نظام الإنقاذ)، وهذا الاختبار سيكون، إما لجهة عجزها وامتناع هويتها العسكرية عن إدارة صراع سياسي من داخل السياسة وأدواتها عبر الحرية والديمقراطية، وإما لجهة تحوّل الأحزاب المناطقية إلى أحزاب صغيرة، تمارس السياسة عبر التحالفات في ترجيح أوزان الكتل الانتخابية بين حزبين كبيرين أو ثلاثة.
إندبندنت عربية