لا يخطيء الكثيرون حين يقولون ان الثورة السودانية كانت مفاجئة ولم يكن التغيير متوقعاً بهذه الديناميكية الشعبية المتسارعة والجارفة، إذ إن بدايات شهر ديسمبر لم تكن تختلف عن بقية بدايات كل الشهور، وكانت الصفوف في الغاز و الخبز والوقود والصرافات قد أصبحت منظرا مألوفاً، كان الوضع هادئاً رغم الرفض والاستياء الشعبي، حتى اذا جاء أمر الثورة وفار تنورها وانكشف للكل ما لا يرون .
لم يكن حراك الشارع في الثورة يحتاج إلى الكثير، فالبركان الذي انفجر فجأة كان كافياً للإطاحة بالدكتاتور مهما كانت العراقيل و العقبات، فالنتيجة الصحيحة لقراءة هذا الانفجار توضح أن الشعب عامة والأجيال الجديدة خاصة قد وصلت إلى مرحلة اللاعودة، وانها قد حددت بنفسها خيارات جديدة للوطن لن تشابه في كثير من ملامحها سودان الإنقاذ و ما قبله.
لذلك كان الاحتفاء من قبل الثوار وبخاصة الشباب من الأجيال الجديدة بتجمع المهنيين والانصياع لجداوله وتوجيهاته مثار أسئلة ومحط استفهام؟ فهذا الجسم في حقيقته ليس سوى لافتة بلا حراك فعلي تاريخي ورأس فوقي بلا جسد صحيح معافى، ولكن هذا هو ما حدث، وربما إسناد التجمع بقوى إعلان الحرية و التغيير، التي تضم أحزاباً تاريخية وكيانات مدنية أخرى قد غطى بعض الجوانب القاصرة في التجمع وأوجد له شكلاً و جسداً وأعطاه الدافع الواقعي في الحراك إلى الأمام، رغم أن الجماهير في الشوارع كانت في معظمها لا تفرق بين التجمع وقوى إعلان الحرية والتغيير حتى وقت قريب.
وجميعنا نعلم أن حتى قوى إعلان الحرية والتغيير تعاني أمراضاً اصابتها خلال الثلاثين سنة الماضية، وأجرت عليها السنين من الفعل ما جعلها أقرب في الهيئة من تجمع المهنيين حيث غالبها أحزاب بلا امتداد جماهيري وتجمعات مدنية خرطومية بلا سيقان في الولايات، لذلك كان شكل قيادة الثورة إلى حد ما مركزياً وخرطومياً، وهي تهمة لم يتورع عن إطلاقها كثير من أصحاب نظرية الهامش والمركز.
هذه هي الصورة الحقيقية لجسد التغيير، فقد حان أوان الصراحة، مليئة بالأعطاب و العلل، وإن استطاع هذا الجسد المعتل الحفاظ على التماسك لحظة المواكب، فإن التحديات الآن أكبر من طاقته، فرأس جبل جليد التغيير الذي استهدفته المواكب كان الإطاحة بالبشير، بينما بقية الجبل بكامله تحت الماء، و كله دعوات للتغيير في شكل الدولة وفي تجمع المهنيين وفي الأحزاب السياسية والحركات المسلحة ومنظمات المجتمع المدني الأخرى، وفي مؤسسات الدولة ومفاهيم الحكم والحقوق والحريات، وفي موضع الفرد وحريته في كل هذا الوجود الحياتي من الأسرة إلى المدرسة إلى الحزب إلى الحكومة إلى المعارضة.
لقد دفع الجميع شعباً وقوى إعلان الحرية والتغيير كلفة التغيير الثوري عرقاً وسجوناً وتعذيباً، ومالاً ودماءً، و أنجزوا معاً الإطاحة البشير؛ ليظهر السؤال الأكبر: هل قوى إعلان الحرية والتغيير ومجمل الحركة السياسية والمدنية والعسكرية خارجها قادرة على دفع تكلفة التغيير الحقيقي في بناء دولة مدنية دولة حريات و مؤسسات؟ هذا هو السؤال الأهم الذي لا يبدو أن ثمة من يكترث له الآن، ربما لأن البعض يظن أن الوقت مازال مبكراً وربما لأن البعض أصلاً لم يفكر ان ثمة كلفة أخرى مازالت للتغيير، كلفة أكبر حجماً وأضخم عملاً، وأكثر حساسية، إذا لم يتم دفعها، فإن الوطن موعود بالعودة مجدداً إلى الحضيض، كما عاد من قبل في ١٩٦٩ و ١٩٨٩م.
د. يوسف السندي
sondy25@gmail.com