قضية الساعة تكمن في إقالة الرجل الذي صال وجال، وكان محل ثقة الرئيس عمر البشير، حمل حقيبة ” أسراره” في جولاته الخارجية التي تجاوزت اختصاصات” وزارة الخارجية” وآخرين من ” دائرة صناعة القرار “مجازاً”، لأن قناعتنا أن الرئيس يمسك بكل الحبال، وهو يستخدم المؤسسات والأشخاص كيفما شاء، وينهي دورها في الوقت الذي يريد.
إقالة مدير مكاتب الرئيس، وزير الدولة برئاسة الجمهورية الفريق طه عثمان، جاءت “مدوية”، لأن صعوده كان ” صاروخياً”، ولأن ” إسقاطه” أيضا تم بـ” طبخة على نار هادئة”، ويكفي النظام ” شفافية ” أنه منع الصحف الورقية من تداول نبأ الإقالة، هذا معناه أن هناك الكثير من ألسنة اللهب والنيران الحارقة تحت ” رماد الاستقالة، وأن هناك ملفات ساخنة لا يراد الكشف عن مضامينها.
التعليقات والتحليلات التي نشرتها ” التحرير” اليوم على لسان صحافي وسياسيًين إثنين وأكاديمي في الخرطوم، تستحق التأمل، إذ عكست جوانب مهمة وحيوية من جوانب قصة الإقالة ، وما يميزها أنها نبعت من قراءة شخصيات تتابع الشؤون السودانية، وعلى إطلاع بمجريات الأحداث.
تحليلات المحللين التي نُشرت في ” التحرير” تحت عنواني ” لغز الإقالة الغامض يثير تقاطع العلاقة بين مراكز القوى” و” محللون: إطاحة “دولة طه” لأنه خلط “البيزنس” بالسياسة وتمدد في مساحات ليست له” حظيت باهتمام القراء، وبنسبة مشاهدة عالية.
هذا يعني أن السودانيين يهتمون بـ” سقوط” أركان النظام ، أياً كان السبب، وهذا يعني أيضاً أنهم يتمنون أن يسمعوا مع صباح اي يوم جديد سقوط ” أحد أركان النظام”، أو سريان الخلاف بين أركانه، على طريق زوال النظام الانقلابي، الفاشل، الظالم، المستبد.
أضيف قراءات أخرى تُعزز ما ذهبت اليه تحليلات من حاورتهم ” التحرير” في الخرطوم، وترى مصادر أخرى في السودان استمعت لتحليلاتها أن ” إقالة طه تمت بشكل أسرع مما توقعنا”، وهنا تبدو إشارة مهمة ، وهي أن ” خلفية طه ليست خلفية عضو في تنظيم الإخوان المسلمين”.
تؤكد المصادر أن الرجل ” اتحادي ( من الحزب الاتحادي الديمقراطي) من دون شك” و” لديه علاقات مع محور ضد الإخوان”، وتلفت الى أن ” بروزه في القمة الإسلامية الأميركية التي احتضنتها السعودية ، والتي شكلت حدثاً تاريخياً مهماً، ومصافحته ( طه) الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي رفض مقابلة البشير، أثارت غضب ” الكيزان” ( تعبير سوداني لوصف الإخوان المسلمين)، وأن” الانزعاج امتد الى دائرة الحكم الضيقة ( القريبة من الرئيس والداعمة له تنظيمياً”، و” خشي هؤلاء من تهميش أدوارهم والإطاحة بما يعتبرونه ” ثوابت” حكمهم إذا استمر صعود طه في حلبة الحكم”.
يستدل أصحاب هذا التحليل لتأكيد مخاوف ” الإخوان” بـ” علاقات طه القوية مع الرئيس البشير، وكيف أحال عليه ملفات سرية مهمة ، ودفع به “ليفتح ” جسرعلاقات أقوى مع دول خليجية”، ويضيف أصحاب هذا الرأي أن ما أثار انزعاجاً لدى بعض ” المقربين” من الرئيس البشير أن ” طه استطاع بناء علاقة قوية مع ( قادة في قوات الدعم السريع ) ويشيرون الى علاقته مع حميدتي ( محمد حمدان دلقو قائد تلك القوات) وآخرين، ولفتوا الى أن هذا الشخص وقائد عسكري آخر كانا في استقباله عندما عاد من رحلة خارجية “.
علاقات طه مع دول خليجية، كما ترى المصادر أزعجت ( أركان) النظام في الخرطوم، وهي لفتت الى قوة تلك العلاقة بالإشارة الى أنه يحمل ” جنسية سعودية” وهذا يعني أنه يحظى هناك بمكانة وتقدير”، كما تشير المصادر( كما نشرت التحرير اليوم ) الى أن ” طه يرتبط بعلاقات قوية مع شخصيات في الأسرة الحاكمة في الإمارات”.
الى جانب كل هذا تشدد المصادر على أن ” طه يكره ” الكيزان” (الإخوان المسلمين)، ابتداء من الراحل الشيخ حسن الترابي الى آخر عضو في الجماعة “،و تقول إن ” ميول الرجل اتحادية ( مع الحزب الاتحادي الديمقراطي) ، وهو ( طه) يرى أن الرئيس عمر البشير شخصية سودانية بسيطة وطيبة وليس ” كوز” ( أخ مسلم)،، و تضيف المصادر إن ” إخوانه ( البشير) كيزان” بحسب المصادر.
اللافت هنا يكمن في كشف المصادر أن ” طه جاهر بانتقادات للكيزان ( الإخوان المسلمين) في مجالسه “، و أنه ” يرى أنهم ” بوظوا ( دمروا) البلد”، وأن ” الإخوان لا يشكلون ثقلا سياسيا مثلما هو الحال بالنسبة لحزب “الامة القومي” و الحزب” الاتحادي الديمقراطي”.
مصادر أخرى تقول إن ” طه متهم بتسريب معلومات” لجهات خارجية، وتشير أيضاً الى نقطة مهمة وهي أن قرار ” الإقالة لا علاقة له بمكافحة الفساد لأن هناك فاسدين أكبر، وهو ( طه عثمان) إذا كان فاسداً فان فساده لا يساوي ربع فساد الآخرين”، أي أن ” القضية التي أدت لإقالته ليست قضية فساد”.
يبدو في سياق التفاعلات، كما ترى المصادر” أن الرئيس البشير لم يعد يثق الا في أقاربه، وهو عًين أحد أقاربه في موقع طه”، أي “أن الرئيس لجأ الى الأسرة بتعيين حاتم حسن بخيت في موقع وزير الدولة ومدير مكاتب الرئيس، ويجيء ذلك في سياق تعزيز انفراده ( البشير) بالسلطة” .
هذا يعني أيضاً المزيد من التهميش لدور مؤسسة الرئاسة والحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) والمؤسسة العسكرية” وفقاً للمصادر، “لتتعزز أكثر من أي وقت مضى أدوار البشير وهيمنته على مفاصل الحكم رغم أنها مهترئة”.
هناك من يرى أن “طه لن يسكت ، لديه علاقات قوية، سيفضح النظام”، وهناك من لا يستبعد ” وجود تمثيلية من نوع ما، لأن النظام متخصص في المسرحيات السياسية، وهو جاء بانقلاب استخدم فيه التضليل أسلوباً، وقد حفظ السودانيون مقولة اذهب الى السجن حبيساً ( الراحل الترابي) واذهب الى القصر رئيساً ( البشير)، لتضليل الرأي العام السوداني والعربي بشأن هوية الانقلابييًن” في الثلاثين من يونيو 1989( انقلاب البشير على حكومة ديمقراطية منتخبة).
أضيف الى ما سبق ذكره ،أنني أرى أن نظام البشير درج في أوقات الأزمات على شغل الناس بقضية ما ، حتى يصرف الأنظار عن مآزق تواجهه مع إشراقة كل يوم جديد، مثلاً شغل الناس في ظل أزمة إقتصادية وسياسية شديدة ومتنامية لفترة زمنية طويلة بتشكيل ما سمي بـ” حكومة الوفاق الوطني” في مايو 2017 ، ثم شغل الناس قبل أيام بقرار منع دخول منتجات مصرية الى السودان في إطار علاقاته المتوترة مع القاهرة، وهكذا يشغل الناس بقضايا يفتعلها أو يثيرها في توقيت معين، لتغطية إخفاقات مستمرة
اُرجًح مع من يرى أن إقالة طه لها علاقة بمستجدات في الخليج ومتغيرات إقليمية ودولية وصراعات داخلية بشأن كيفية تحديد توجهات الحكومة في هذا الشأن، وأرى أن النظام في مأزق بسبب الوضع في الخليج، ويعاني حالياً من ضبابية الموقف بشأن العلاقات مع قطر من جهة ، والسعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة أخرى بعدما قطعت الدول الأربع علاقاتها مع الدوحة كما هو معلوم .
حتى الآن لا يفهم كثيرون طبيعة و أبعاد موقف النظام السوداني الذي يدعي أنه يدعم الحوار بين الخليجيين من دون تحديد كيفيات الدعم وآلياته، هو يتعمد خلط الأوراق، ولا يستجيب لحقائق الواقع ومصالح الشعب، تهمه مصالح النظام و” الإخوان”، وبسبب ذلك تتوه خياراته وتتناقض مواقفه، وتتسبب – في ظل غياب الاستراتيجية والصدقية وتحت تأثير الاحتكام إلى التكتيكات والمناورات السياسية – في فقدان تحالفاته وعلاقاته مع الدول كافة .
كتبت في وقت سابق( قبل الأزمة الحالية في الخليج) ، واكرر أن النظام في السودان، وخصوصاً رئيسه البشير، يلعب دائماً بكل الحبال، ويجيد الأكل من كل الموائد، وأشرت الى تقلبات علاقاته مع ايران من الحميمية الى الخصام، لكنه لا يستطيع أن يتعامل الآن بوجهين مع دول مجلس التعاون الخليجي ، سيجد نفسه ” معزولاً” ودوره هامشياً، إذا استمر موقفه الحربائي، الضبابي، الهلامي الحالي، ولا أعتقد بأن في مقدوره الاستمرار بالأكل من كل الموائد في وقت واحد.
modalmakki@hotmail.com
Online Drugstore,cialis 5mg buy,Free shipping,buy clomid,Discount 10%cialis black order