في أكتوبر 2017م أعلنت الحركة الشعبية شمال جناح الحلوعن عقد مؤتمرها الاستثنائي بكاودا بعد المفاصلة والانقسام. فأتيحت لي الفرصة في أن أكون ممثلاً لحزب الأمة القزمي في هذا المؤتمر. كان خط سير رحلتي (الرياض – أديس ابابا – جوبا).
ومن
جوبا الى “ايدا” على طائرة شحن بلا مقاعد فكان الجلوس على الكراتين
والشحنات عدا شخصي؛ إذ أكرمني منسقا الحركة الشعبيه (مارتن والشاذلي) وما أروعهما
بتأمين كرسي بلاستيك للجلوس عليه داخل الطائرة، بعد التنسيق مع سايمون مشرف الرحلة
بأني (VIP) قال في أي بي! وضيف مهم عندهم.
بعد طيران نحو ثلاث ساعات من جوبا هبطت بنا
الطائرة بمطار “ايدا” الغابي؛ لأنه
وسط الغابات وبلا منشآت حوله. هناك استقبلني الكمرد حاتم وفيما بعد الكمرد إبراهيم
الشريف بدر، وكلاهما من النوبة.
تقع “ايدا” بمنطقة “جاو”
بولاية الوحدة التي تشارك في الحدود جنوب كردفان. وفي “جاو” يوجد أكبر
معسكر للنازحين من جبال النوبة (يفوق عددهم الستون الف) الذين لجؤوا الى وطنهم
الثاني جنوب السودان فراراً من قنابل طيران حكومة الإنقاذ.
كانت منطقة “جاو” غابات كثيفة يصعب
حتى على الفرد التحرك فيها، حتى دخلها لاجئوا جبال النوبة فطوعوا غاباتها وكل
التحديات فبنوها حاضرة، وأيضاً بجهودهم ساعدوا على إقامة مطارها. فأصبحت فيما بعد
منطقة منتجه تمد كثيراً من إقاليم الجنوب بالحبوب والمنتجات الزراعية، فالإنسان
النوباوي منتج ويحب الاعتماد على نفسه.
للأسف كل هذا الكم البشرى كان بلا خدمات صحية
ولا مدارس، وأصبح يخرج كل سبع سنوات جيلاً من الفاقد التربوي لا يعرف عن وطنه سوي
اسمه. ورغم أن بعض المنظمات الإنسانية قد قدمت في البداية بعض المساعدات لهؤلاء
الغلابة ألا أنها رفعت يدها، ثم تركت هؤلاء اللاجئين يواجهون قسوة الحياة بجهودهم
الذاتية.
في “ايدا” قمت بالطواف على بعض أجزاء
المعسكر مع مشرف الحركة، وما هو محزن أن اللاجئين قد هربوا من طائرات الانتينوف
لكن حملوا معهم تراث وطنهم. فتسمع أصوات الفنانين وردي ومحمد الأمين والبلابل خلف الحيشان،
ورغم المآسي بقي الوطن حاضراً في أعماق النازحين في المعسكرات خارج الوطن.
وفي الصباح وقبل التحرك من ” ايدا” جاءني منسق الحركة المسؤول. ذلك الرجل الوقور إبراهيم الشريف بدر، وأخذ يشرح لي خط السير ووعورة الطريق، ويعتذر عما قد نواجههه من متاعب، وأنا العارف بتفاصيل المنطقة التي كنا نجوبها نحن الحوازمة أما خلف القطعان، أو نحن الطلبة راكبين على ظهور التراكتورات سفراً الى مدارسنا في فصل الخريف، بل اخذت أذكر له بعض المحطات التي يمكن أن يمر بها الطريق فاطمأن بأنني سأتحمل وأتقبل الوضع.
تحركنا من
“ايدا ” في اتجاه جنوب
كردفان ثم كاودا الساعة التاسعة صباحاً على موترين، احدهما يقلني والثاني حراسه، ويحمل
بعض المؤن، وذلك لتعذر حركة العربات حتى ذات الدفع الرباعي في هذه المنطقة الوعرة
في فصل الخريف.
وبعد ساعتين من السير دخلنا جنوب كردفان حيث
جبالها الشامخة الزرقاء، وهي تطل علينا من كل اتجاه، وفي الطريق انقلب موتر
الحراسة وكادت ساق السائق أن تنكسر لولا لطف الله.
نعم لقد كانت الرحلة شاقة لكنها مغامرة ممتعة أعادت
لي كثيراً من الذكريات، حيث مررنا بقرية طابولي وهي على بعد مسافة قصيرة من مدينة
تلودي التي عشت فيها جزءاً من سنين عمري في ذلك الزمن الجميل، فحزنت أن أشاهدها من
بعيد.
ما
هزني وأثار إعجابي أنه بدخولنا مناطق سيطرة الحركة الشعبية لم أشاهد أي مظاهر لعسكريين أو مسلحين يجوبون
الطرقات كما تعودنا في جنوب كردفان، حيث سيطرة الحكومة، سوى نقاط تفتيش على مسافات
متباعدة، وعند عبورها كان ينادونني بلفظ الحبيب (رغم أن اللقب السائد هو كمرد) مع
الدعابة، والسؤال عن الحبيب الإمام الصادق المهدي وصحته، أسلوب راقٍ في التعامل مع
الضيوف.
بعد نحو أكثر من (11) ساعة ونحن على ظهور
المواتر لا نتوقف الا للحظات لتناول وجبة أو شرب كأس من الشاي. خلالها عبرنا
سهولاً وودياناً و بطاحاً جميله تكسوها رمال بيضاء تجري فيها مياه صافية، وعلى جنباتها
شجر الدليب والدوم بل غابات كثيفة.
خلال هذه الرحلة تفتحت عيناي على أشياء لم أكن
أتصورها خاصة حالة الأمن والاستقرار داخل مناطق الحركة. فالناس يتصورون أنه لا حياة
في هذه المنطقة، وأن الموت هو المتوافر فيها، لكن الأمر مختلف تماماً على الواقع.
لقد اتصل علي أفراد اسرتي وهم يبكون شفقة وخوفاً علي مستنكرين عدم تمليكهم
المعلومة كاملة عن الرحلة التي كانوا يتوقعون أن نهايتها مدينة جوبا وليس كاودا،
وكنت أطمنهم بأنني هنا أكثر أمناً من السفر إلى الدلنج أو كادوقلي.
في كاودا التي وصلناها ليلاً في مساء خميس
وجدنا المدينة صاخبة تعلوها طبول شيوخ الصوفية وهم يقيمون ليالي الذكر .. وفي نهار
الجمعة علا صوت الآذان من مسجد كاودا الجامع بمآذنه الخضراء العالية، فاستغربت لمزايدات
أهل الإنقاذ في أنهم ذاهبون لصلاه الجمعه فيها، كأنهم يودون فتح كنيسة “أيا
صوفيا ” ليبدلونها مسجداً.
والمفارقة أن المدينة ليس بها كنيسة، وإذا وجدت،
فالأديان هناك متصالحة بلا عداءات. وفي مقر إقامتنا بكاودا تقاسمت السكن في غرفة
مع نائب رئيس مجلس تحرير الحركة الشعبية القادم من النيل الأزرق منطقة
“مابان” الحدودية مع الجنوب. بل كان هناك دكتور محمد جلال هاشم حضوراً
وكان يتصدر جلسات النقاش الخاصة متحدثاً عن تاريخ النوبة والمسيحية في شمال
السودان، وربط ذلك بجبال النوبة.
في الليلة الأخيرة قبل المغادرة دعاني القائد
عبدالعزيز الحلو إلى العشاء في منزله الذي وصلناه بصعوبة لوعورة الطريق، وكان
ترحيبه بي حاراً بحكم زمالة الدراسة والمنطقة، وقدمني لبعض قيادات الحركة
الموجودين بأنني زميله في الدراسة، وممثل
حزب الامة القومي شريكنا في الهامش.
وبعد
العشاء انفردنا أنا وهو وكبير مستشاريه زميل الدراسة كوكو محمد جقدول. وفي هذا
اللقاء نقلت له بعض رسائل قيادة حزب الأمة القومي وتهانيهم بانعقاد المؤتمر، وناقشنا
بعض قضايا الوطن والعلاقة مع نداء السودان، وكذلك قضايا المنطقة وبخاصة ما يحدث
بين الحركة وأهلنا الرحل والاتهامات المتبادلة في ذلك.
وكان الحلو يؤكد لي أن الحركة جاءت من أجل
الهامش وأن ما يحدث من تجاوزات هنا وهناك ليست من سياستنا، وقابله للمعالجة مشيراً
وهو يمازحني: “بس انتو الحوازمة والدفاع الشعبي صعب علينا التفاهم معكم”.
وهذه رسالة ذات حدين جهتنا كحوازمة وجهة الحركة الشعبية وبحاجة الى جراحة علاجية حتى
لو كانت قاسية، وقد حان الوقت أن نضع الأمور فوق الطاولة في هذا العهد الجديد
وتفعيل حسن النية والأمانة، وبناء الثقة، ومبدأ المواطنة بما يكبح أي تطورات سالبة،
والكبار والحكماء وحدهم يعرفون المخارج؛ لأن الفشل في ذلك تداعياته خطيرة.
لقد وجدت الأخ عبدالعزيز الحلو كما عرفته لم
يتغيركثيراً في السلوك يتمتع بهدوئه واحترامه للمتحدث معه، فهو يتحدث إليك بصوت
خافت ونبرة عميقة، بل يميل إلى الاستماع أكثر من أن يتحدث. وكذلك الاخ كوكو محمد
جقدول. نعم كلاهما من مدرسة سياسية واحدة،
بل أيضاً لهما أسلوب واحد في التعامل.
التحية للأخ عمار آمون دلدوم السكرتير العام
المنتخب الذي زارني في مكان إقامتي وآخرين يضيق المكان في الحديث عنهم، ومنهم أذكر
دكتور أبكر ابن منطقة الفرشاية. والتحية كذلك للاخ حيدر جرهام ابن معلم الأجيال
العم جرهام.
ودعت القائد عبدالعزير الحلو والاخ كوكو محمد
جقدول بعد انتهاء اللقاء الساعة الثانية والنصف فجراً بذات حرارة اللقاء بعد أن
وجهوا منسقي الترحيل بعمل اللازم لترحيل المغادرين.
كانت
أيام جميلة لا زال طعمها باق عندي، وأحسست ان كل الخلافات قابلة للحل إذا ما صدقت
النوايا والأفعال. وشكرا لك أيها القارئ الكريم، وهذا كلام أفرجت عنه اليوم فقط بعد
زوال زمن الغتغته والدسديس.