بسقوط الشيوعيه في نهاية الثمانيات تحقق للبشرية وللحرية انتصارها المدهش، ورأينا يومها الامم المقهورة في دول شرق أوربا تخرج للشوارع خروج العصافير من أقفاصها، وخرج الروس من السياج الحديدي زرافات ووحدانا يستنشقون أنسام الحريه فى الفضاء الإنساني الواسع. وما حدث يومها يماثل الخيال. الشعوب تقف أمام الدبابات ورأينا الأنظمة الشيوعية بأحزابها (التقدميه) تتداعى كأحجار مرصوصه واجهت زلزالا بقوة ثمانية درجات على مقياس ريختر او واجهت مد تسونامي هائل الامواج. وفي المحصلة لحقت الشيوعية بالنازية وبنسخها في إيطاليا وفي كل كهف.
ولكن بعد انتهاء حقبة الشيوعية
وانهيار جدار برلين تصرفت أغلب احزاب السودان على أساس أن خطر الشيوعية على
الديمقراطية السودانية العائدة والراجحة وثقافتها قد انتهى بانتهاء الاتحاد
السوفياتي. ويبدو ان ذلك اعتمد على عامل معلن وهو ان الحزب الشيوعي الأب كممول
لأنشطة اي حزب شيوعي كما وثق لذلك برنامج أرشيفهم وتاريخنا (قناة الجزيرة)، قد
انتهى. ولكن تصرف الاحزاب السودانية الذي يشبه طبعها سيجلب لها لاحقاً ماساة كبرى
لا تقل عن تلك التي حدثت في مايو ١٩٦٩وغزو حي ود نوباوي والجزيرة ابا بالدبابات.
إن العهد بهذه الاحزاب، أن طبعها يسبق التطبع وأن آفة حارتنا النسيان كما قال نجيب
محفوظ.
ونضرب الأمثال ليتضح المقال، ونقفز
على مشاهد شغب الحزب الشيوعي خلال فترة التجمع الوطني الديمقراطي، لنتوقف عند ثورة
ديسمبر. إذ اكتشف الحزب الشيوعي مع بداياتها أن الطبقة العاملة بمفهومها الكلاسيكي
صارت جزءا من الماضي. وأن نجمها قد أفل ولحق أمات طه. ولكنه يحب الآفلين. وهكذا شرع
في (تكتيك) فاشل وهو حملات تشويش وتشويه وحرب بيانات وانسحابات لم تجدي بقدرما عكست
الاستعصاء والتكلس الذي يعاني منه الحزب. وظهر الحزب وكأنه يعترض طريق التحول
الديمقراطي لكي يستعيد دور متوهم. عندها تذكرت الأحزاب الكبيرة أن هذا الحزب يعيش
ما قبل جدار برلين. ولكن ما فات على قيادة الحزب الشيوعي أن الشعب السوداني كما
بينت ثورة ديسمبر نفسها، أضحى في اغلبيته شبابا، ومن الطبيعي أن تتضاءل شعبية حزب
شاخ. ولكن لا حياة لمن تنادي.
ما يهمنا أن هذا الشغب الذي
مارسه الحزب لم يحظى بما يستحق من اهتمام وتأمل أو تفكر في خطره المستقبلي. وطالما كانت العفوية نهج فإنه لن يطول بنا المقام حتى نرى التيار
المتكلس في الحزب الشيوعي مهدد أساسي لمستقبل الديمقراطية في بلادنا. يزيد من هذا
المهدد موقف الأصلي للمتكلسين من الديمقراطية بالسودان. وهو موقف لا يمكن فصله عن
التربية التنظيمة لهذه القيادات التي طالما راهنت على الانقلابات العسكرية ومن ثم سوق
الشعب السوداني كالقطيع لتجريعه ما يتوهمون بأنه اشتراكية وتقدميه… لقد
عشنا ملمحاً من تجربة انقلابهم بقيادة السفّاح نميري. حينها تحولت التقدمية لانتقاميه.
فهي انتقام من الأحزاب الوطنية وإنتقام من الادارة الأهلية بزعم انها تمالي الاحزاب
الوطنية الكبرى وانتقام من الرأسمالية الوطنية لأنها
أقرب للحزبين التاريخين. هكذا تم دق اخر مسمار في الاقتصاد الوطني وفي المبادرة
الفردية ومشاريع العصاميين. وحدث ولا حرج عن الخسائر في الأرواح وغسيل الدم
بالدم والسمعة والاستقرار. وهكذا يعدنا الحزب العجوز ابالمزيد من الانتقام لتجريع
شعبنا برنامجه الشرير. والتقارير التي يدبجها هذه الايام امتداد لما كان يقوم به أثناء
ثورة ديسمبر. استهداف الحكم الانتقالي وتصنيفه بأنه صنيعه (للغرب).
إن هذا التوجه مهدد حقيقي ويجب
ان يدفع للاستيقاظ للحد من شرور التيار المتكلس حتى لا نرى صعودا للشموليه
والكراهية وزرع نازية سودانية تروج لاغتيال القيادات الوطنية ووصمها بما ليس فيها.
وقد يكون مفيدا تبني
استراتيجيات جماعية لدعم تيارات اليسار السوداني الوطني. وهو دعم يضمن
درجة من التوازن والشعبية ويحد من الشعور بالإحساس بالعزلة والتهميش. على أن دعم
المعتدلين في اليسار سيكبح من توجهات حزب لا يعمل الا في الظلام ويطغى على قيادته شعور
بالنقص المرَضي والذعر من الديمقراطية.
إن على الأحزاب السودانية بذل الجهد
اللازم حتى لا تشجع التيار المتكلس بالحزب الشيوعي ليبدد طاقات وطنية مفيدة. طاقات
كان ينبغي ان تستخدم في انتشال شباب السودان من البطالة والعطالة والاستبعاد. ونذكر
بأن هذا الشباب هو الذي قاد الثورة وهو وفق الإحصاءات موضوعية يرفض
مفاهيم الشيوعية وأساليبها فضلا عن انه يمثل الشريحة الغالبة التي لها دوي هائل في
صناديق الاقتراع الآتية لا ريب فيه.
ان الجهد السياسي المطلوب ينحصر
في توضيح مخاطر المتخشبين. ولا يعني حصارهم او دفع هذه الأقلية للإحساس
بالغربة او التحول لمنظمة سرية وانما دفعها للمراجعه بتبني برامج عصرية تؤهل حزبها
ليكون حزبا وطنيا مندمجاً في التيار الديمقراطي السوداني.
إن الوعي بالمواكبة وبالعصر
يجعل من الاختلاف كنزا ينعكس استقرارا سياسيا واقتصاديا ووفرة، وعدالة وحريات
وسلام كما قالت شعارات ثورة ديسمبر المجيدة. فالأمر ابعد من اسقاط الطاغية.