يُشكر للدكتور حمدوك أنه أول صاحب صوت يتجاوز ربط إصلاح الأجهزة العدلية بتعيين رؤساء للقضاء والنائب العام، ويربط ذلك بضرورة إحداث إصلاح شامل بالمحكمة العليا والمحكمة الدستورية وفق ما ورد بلسانه عند لقائه بأبناء الجالية السودانية في أبوظبي، ذلك أن الرئيس في هذين الجهازين ومهما أوتي من عزيمة ومعرفة وتصميم، لا يستطيع تحقيق الإصلاح المنشود وكوادر التنظيم لا تزال تسيطر على هذه الأجهزة، بيد أن هذا التصريح يحتاج إلى تصويب طفيف في العبارة حتى يستوي المطلوب ويتحقق الهدف المنشود.
ونبتدر التعليق بأن عملية إصلاح القضاء والنيابة، ليست من اختصاص الحكومة التي يرأسها السيد حمدوك (وإن كان له دور في ذلك نُشير إليه لاحقاً)، كما أن التعبير الدقيق بحسب مطلوبات الوثيقة الدستورية أنها ليست عملية (إصلاح)، والصحيح أنها عملية (إعادة بناء) للأجهزة العدلية (القضاء والنائب العام) وقد ورد ذلك بالمادة الخامسة (مهام الفترة الانتقالية) من الوثيقة التي تنص في بندها الثامن على إلتزام أجهزة الدولة بالقيام بعملية “إعادة بناء المنظومة الحقوقية والعدلية بما يضمن إستقلالها”.
كما جعلت الوثيقة الدستورية من مهام الحكومة الإنتقالية “تفكيك بنية التمكين الذي جاء به حكم الإنقاذ” وقد ورد ذلك بالبند السادس عشر من نفس المادة.
والحال كذلك، فإن إعادة بناء القضاء والنائب العام أمر حتمي ومُلزِم للحكومة الإنتقالية، ولا يتوقف الأخذ بهذه النصوص أو إغفالها على إرادة أو رغبة الحكومة في القيام بهذا الواجب، وإذا ما تعارض تحقيق هذه الأهداف مع القناعات الفكرية لأي صاحب منصب في أي جهة ذات صلة بتنفيذ ما ورد، بما في ذلك رئيس القضاء أو النائب العام أو أي عضو بالسيادي أو الوزراء، عليه التنحي من مقعده لا أن تُنحّى له هذه الأهداف، والقول بذلك بهذه الثقة يُستمَد ممّا نصّت الوثيقة الدستورية في صلبها (المادة الثالثة) التي تقول أن الوثيقة هي القانون الأعلى بالبلاد وتسود أحكامها على جميع القوانين، ويُلغى أو يُعدّل من أحكام القوانين ما يتعارض مع الوثيقة بالقدر الذي يُزيل التعارض.
تبقى فقط الإجابة على السؤال: ماذا تعني عبارة “إعادة بناء أجهزة العدالة” وماذا تعني عبارة “تفكيك التمكين” الواردتين بالوثيقة فيما يلي جهازي القضاء والنائب العام ؟
المعنى اللغوي والقانوني الواضح لعبارة “الإصلاح” أنها تعني الترميم، فيما تعني عبارة “إعادة البناء” أن يتم التشييد من جديد، وقد شهد السودان تجربة مُماثلة في إعادة بناء القضاء، وقد حدث ذلك عقب إضراب القضاة في عام 1983م، فيما عُرِف بقرار “البِنية القضائية”، الذي شكّل بموجبه الرئيس الأسبق جعفر النميري لجنة برئاسة نائبه عبدالماجد حامد خليل، قامت بإعادة تسكين القضاة بالدرجات المختلفة من واقع ملفات خدمتهم، وفي بحثها عثرت اللجنة على حالة لأحد قضاة الأحوال الشخصية عمل بالقضاء لسنوات طويلة بمؤهل ليسانس آداب قسم جغرافيا، وتمّ عزله.
القضاء هرم مقلوب، يتم بناؤه من أعلى إلى أسفل، ويبدأ بنائه بتشكيل محكمة عليا من ذوي الخبرة والدراية والمقدرة على استنباط القواعد والأحكام وتفسير القانون، وهو ما كان عليه الحال في عهود ما قبل الإنقاذ، وأهمية المحكمة العليا تكمن في أنها الجهة التي تُرسي السوابق القضائية التي يسير على هديها بقية القضاة على سبيل الإلزام، لتأتي أحكامهم مُتسِقة في القضايا المُتشابهة بحيث لا يتوقف مصير المتهم على قسوة قلب القاضي وشططه أو ما يملأ قلبه من عطف ورحمة.
ثم يتوالى بعد ذلك بناء وتشكيل المحاكم الأدنى من بين الجديرين والمؤهلين وذوي الإستقلال من القضاة ووكلاء النيابة الحاليين وتعيين آخرين من بين الراغبين الذين حُرِموا من الالتحاق بالقضاء والنيابة خلال حكم الإنقاذ، وتتوافر فيهم ذات الشروط والمعايير المذكورة.
عند عملية إعادة البناء، سوف تظهر حالات لقضاة جرى تعيينهم في أثناء حكم الإنقاذ بلا مؤهل في القانون، وآخرين عملوا قضاة وفي ذات الوقت مُخبرين لأجهزة أمن الإنقاذ، وبينهم أصحاب الولاء (العلني) للتنظيم السياسي المخلوع، ومن التحق بالعمل السياسي والتنفيذي في أجهزة الإنقاذ عن طريق الإعارة في أثناء فترة ولايته بالقضاء والنيابة.
“إعادة بناء” أجهزة العدالة هو المعنى الآخر لعبارة “تفكيك التمكين” اللذان نصّت عليهما الوثيقة الدستورية، وقد كان القضاء والنيابة أكبر مسارح لعمليات “التمكين” التي قامت بها الإنقاذ لكوادرها لأسباب واضحة ومعلومة، فقبل أن تُكمل الإنقاذ شهرها الثالث في الحكم كانت قد قامت بفصل نحو ثلث عدد القضاة العاملين من مختلف الدرجات، ثم تقدم عشرات من القضاة الآخرين باستقالاتهم من العمل إما احتجاجاً على عزل زملائهم أو عزوفاً منهم عن العمل في قضاء يفتقر لأدنى درجات الإستقلال، وقد انتهى الحال بإفراغ القضاء من ثلثي كوادره في العمل.
ثم قام النظام بتعيين كوادر التنظيم من بين المحامين كما إستقطب عدد من أبنائه من القانونيين المُغتربين بالسعودية واليمن ودول الخليج وقام بتسكينهم في مختلف الدرجات بأجهزة العدالة، ثم فتح الباب لتعيين طلائع كوادر التنظيم الشباب في أسفل السلم بذات المعيار “التمكين”، والذين بلغوا اليوم وبعد مضي كل هذه السنوات أعلى المراتب بالمحكمة العليا ومحكمة الإستئناف.
حتى لا نظلم شرفاء وأبرياء من الزملاء، نبادر بتوضيح حقيقة أن عدداً من القضاة المهنيين واصلوا في العمل بالقضاء والنيابة بقناعات مختلفة، وقد أبلى كثير منهم في أعمالهم وكانت لهم مواقف مشهودة ومعلومة. كما أن هناك من دخل الخدمة بالقضاء والنيابة من بوابة “التمكين” ولكنهم أثبتوا مهنيتهم واستقلالهم، وهؤلاء جديرون بالاستمرار في عملهم.
تبقى بعد ذلك الإشارة الى الدور المطلوب من حمدوك ومجلس وزرائه، وهو التمسُّك والإصرار أمام مجلس السيادة على تحقيق هذه الأهداف بالسرعة المطلوبة.
الأمل ان يُعهد بعملية إعادة بناء السلطة القضائية والنيابة إلى لجنة من قانونيين يتم انتقاؤهم بمواصفات يُراعى فيها الاستقلال والحياد، وأن تكون اللجنة برئاسة رئيس القضاء والنائب العام – بحسب الحال – بعد اكتمال تعيينهما، وأن يُعهد إلى هذه اللجنة، بالمرة، تعيين المجلس الأعلى للقضاء ومجلس النيابة العالي، وفي ذلك مخرج لما غفلت عنه الوثيقة من بيان للكيفية التي يتم بها تشكيل المجلسين.