(المتفائل والمتشائم كلاهما ضروري للمجتمع، الأول اخترع الطائرة، والثاني اخترع الباراشوت) .. هكذا تقول الحكمة التي أجدها تناسب واقعنا .. مع تحفظ جاد على التشاؤم المطلق .. مهما كانت المبررات.
وتتشبث بالذهن تحديداً قصة رئيس الوزراء حمدوك مع قوى الحرية والتغيير الأخيرة، والتي تمثلت في عبارات هادئة قالها رئيس الحكومة في لقائه بالجالية السودانية بمدينة الرياض ذكر فيها أنه لم يتسلم حتى الآن خطة العمل المفصلة من قوى الحرية والتغيير لكي يعمل بموجبها.
هكذا انقسم القوم، ولا سيما أولئك المتصدرون للمشهد الإعلامي، بين متشائمين كثر مما قاله حمدوك، ومتفائلون قلّة فهموا المعنى على طريقتهم وأعطوا ضوءاً أخضر لرئيس الوزراء كي يسير للأمام بلا قيود تكبل خطواته.
المتشائمون أنفسهم انقسموا على فئتين : فئة تتشاءم من واقع آمالهم الكبيرة التي وضعوها على عاتق الثورة والحكومة المنبثقة عنها، وفئة أخرى ذات أجندة تتمنى في قرارة أنفسها زوال الثورة ومنجزاتها، وتتشفّى من كل عثرات تحدث في الساحة، وتبث طاقة سلبية في الحراك لإجهاضه وعودة الأمور إلى ما كانت عليه أيام المخلوع!
لغة العقل تقول إن الكلام يُفهم من سياقه، ومن استمعوا لحديث حمدوك كلهم يعرفون أن كلامه لم يكن أبداً في سياق اللوم وخلق الذرائع، بل كان في سياق ما يجري في الساحة، حيث أن الحديث جاء في إطار الثقة بأن قوى الحرية والتغيير لها برنامجها، ولها رؤاها، لكنه لم يتسلم نص هذه البرامج من قوى الإعلان، وأنه مع ذلك شرع في إجراء المعالجات اللازمة وفق برامج وقطاعات وزارية .. تفادياً لمطبات الانتظار.
كلنا نعلم بالطبع أن هناك وثيقة دستورية سبقتها وثيقة سياسية، وفيهما ما فيهما من موجهات عامة لو تم الالتزام بها، مع ترك التفاصيل لحكومة الكفاءات، لما احتجنا لبرامج تفصيلية وصداع إضافي يدخلنا في متاهات!
حكومة حمدوك ليست جهازا يعمل بلا عقل، وليست حكومة سياسيين .. لكنها حكومة كفاءات يكفي أن يعلموا اتجاه المسار ليضعوا الحصان أمام العربة وتنطلق المسيرة. والجميع يعلم أن الموجهات العامة تتمثل في تحقيق السلام، ورفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإخراج الاقتصاد من غيبوبته، وبسط العدالة بتقديم كل مجرمي العهد البائد وكل من تسبب في إراقة دماء الشهداء للمحاكمة.
هذه العناوين المهمة التي تضمنتها الوثائق، وأكدتها الثورة برموزها ومكوناتها، هي أوضح خارطة طريق أمام حكومة حمدوك، بل إن حمدوك ليس بحاجة لانتظار أي خطة .. ولذلك نراه قد بدأ العمل بالموجهات المذكورة، ولو تم الالتزام بذلك لخرجت التجربة كلها بنجاح باهر، ولدخل السودان عهد الديمقراطية بحكومة منتخبة بعد ثلاث سنوات متعافياً بالكامل من وعكته الخطيرة إبان عهد الإنقاذ.
نعم .. هناك مشقة في التفاصيل، لكن يكفي أمام أهل الكفاءة أن تكون الموجهات العامة واضحة، أما شق المسارات وتمهيد الدروب فهي مهمة هؤلاء الأكفاء، فأمامهم صلاحيات مفتوحة وممتازة في إطار الأهداف النهائية .. خصوصاً في ضوء التفويض الذي حازته الحكومة من قبل قحت وكافة قوى الحراك الثوري.
الأمر ليس فيه مدعاة للتشاؤم أو المكايدة السياسية، ولو أراد المتشائمون التقاط السلبيات هنا وهناك فسيجدون ضالتهم بسهولة، لكن عليهم معرفة أن تجارب التغيير الكبرى لا تمر دون معاناة وسلبيات، وأن الأقدام التي تدميها أشواك الطريق تتعافى سريعا بعد الوصول إلى محطات النهاية.
الصورة ما زالت زاهية، وعمليات التغيير تتم بهدوء وتؤدة وجدية، والخطى تسير صوب الأهداف. ذاك ما نراه حتى الآن، وهذا ما نعتقد أنه يحتاج بعض الوقت لبروز ثماره على أرض الواقع.