لفت نظري حينما كنت مشاركا في مؤتمر المجلس الدولي للغة العربية عام 2014، والذي يقام سنويا بدبي؛ لفت نظري تهافت المؤسسات العلمية الأكاديمية من بعض دول الخليج – وأخص بالذكر – المملكة العربية السعودية الشقيقة، ودولة قطر الشقيقة، تهافتهم على الشخصية السودانية المشاركة في هذا المؤتمر، يتابعون محاضراتهم ويتعاقدون معهم.
في عام 2015، كنت مشاركا في مؤتمرين دوليين بأندونيسيا الأول بجاكرتا والآخر بجزيرة مالانق، وأثناء حضوري مأدبة العشاء التي أقامها محافظ جاكرتا على شرف المشاركين، وعلى طاولة المحافظ كانت معنا شخصيات خليجية مشاركة، فكان لدي فضول أن أطرح عليهم السؤال الآتي: لماذا تبحثون عن السودانيين في المؤتمرات وتتعاقدون معهم؟ فجاءني الرد الآتي: السودانيون صادقون في سيرتهم الذاتية والعلمية لا زيادة ولا حشو، السودانيون لا يحبون التباهي المعرفي وفرد العضلات اللغوية، السودانيون يعملون بصمت وهدوء ونتاجهم بالملايين كبيض السمك، دونما جعجعة أو ضجيج الدجاجة التي تضع بيضة واحدة في اليوم قالبة الدنيا رأسا على عقب، السودانيون أمناء قانعون بما قدر الله لهم من رزق، لا يتذمرون ولا يتندرون ولا يضجرون، يتحلون بدماثة خلق، وحسن طباع، والأهم من ذلك كله فإن الشخصية السودانية تحترم ثقافة الآخر. كان هذا العام (2015) وهو العام الأول لي في السودان كموظف دولي تابع لإحدى منظمات جامعة الدول العربية، ممثلا لبلدي الكويت الحبيبة، في مجال تنمية الثقافة العربية ونشر اللغة العربية، وهي المرة الأولى التي أرى فيها السودان، ما يعني أنني حديث عهد في السودان، زادي الوحيد هو (رواية الطيب صالح هجرة إلى الشمال وعرس الزين وما دار حولهما من كتابات نقدية تحليلية وجوائز)، ولكن هذا الزخم من المعلومات عن الشخصية السودانية الذي زودني به الأشقاء الخليجيين، كنت أراه وألمسه كل يوم أقضيه في السودان؛ فهناك طاقة بشرية عاملة وعالمة، تتمتع بمستوى مهني وتقني عال جدا، ولعل حب السودانيين للعلم والمعرفة – ولاسيما – شغفهم النادر بتعلم اللغات جعل منهم عملة علمية نادرة تتهافت عليها الدول – وعلى وجه الخصوص دول الخليج العربية – فلا يختلف اثنان على أن السوداني جاد في عمله، متقن لتخصصه، متحصن بثقافة عالية، وما لمسته في الشعب السوداني أيضا احتواء الضيف واحتضانه، فمنذ أن وطئت قدمي أرض السودان الطيبة، انهال علي كم من الكتب والمؤلفات والروايات ودواوين الشعر المهداة، لا أبالغ إذا قلت بالمئات، فاحترت بمن أبدأ منها؛ أأبدأ بدراسات سودانية للدكتور صلاح الدين أحمد عباس أحمد والدكتور النعيم التوم محمد أحمد، أم بقاموس اللهجة العامية في السودان للبروفيسور عون الشريف؟ أم بكتاب جذاذات وقذاذات للبروفيسور عمر شاع الدين؟ أم بكتاب الطقوس السودانية عبر التاريخ لشمس الدين يونس؟ أم بكتاب أوراق سودانية للبروفيسور قاسم عثمان نور؟ أم بكتاب العادات المتغيرة في السودان النهري (النيلي) للبروفيسور عبدالله الطيب، أم كتاب ذكرياتي في البادية لحسن نجيله، أم كتاب من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان لمعاوية حسن، أم كتاب الرواية السودانية في 60 عاما لمحمد المهدي بشرى، أم المجلة الثقافية السودانية، أم رواية أيام الشدو الأخيرة لصديق الحلو، أم ديوان فجر الأماسي لنادر عمر قدور، أم رواية شوق الدرويش لحمّور زيادة، …
بعدها أيقنت أن الشخصية السودانية لم تستهلك نفسها وتهدر وقتها الثمين بالسخرية من الأقوام الأخرى، ولا بالتنابز بالألقاب، ولا بتلامز النفس، ولا بالتجسس، ولا بالغيبة أو النميمة أو الوشاية، ولا تقتحم خصوصية الأفراد والمجتمعات بطريقة فجة سمجة؛ فكل ذلك بضاعة المفلس المتصحر خالي الوفاض الذي لا يملك حتى خفيّ حنين ليعود بهما إلى رشده، بل استثمروا عقولهم الجبارة بالقراءة والإطلاع فتفتقت أذهانهم بالعلم والمعرفة، وانتشرت العقول السودانية المميزة والمؤثرة في جميع حقول وميادين العلم، انتشرت في أصقاع الأرض، وأبهرت الجميع، وحققت نجاحا لا نظيره له، وأسهمت في تأسيس حضارات ومدنية معاصرة عربية ودولية: – وللســــــودان أنحي جـللا … وللســـــودان فضلٌ وعرفانُ – وللســـــودان أنثني خجلا … وللســـــــودان حسنٌ وأفنانُ – وفي السودان أبتغي سلما … وفي الســـــــودان أمنٌ وآمانُ – وفي السودان أرتجي أملا … وفي السودان وطني وأوطانُ على أرض المحبة والسلام، على أرض الأخوة والوئام، على أرض النيلين؛ الأزرق: الحذاقة والبصيرة والاستشراف؛ الأبيض: صفاء النفس وسلوة الروح ونقاء السريرة، على أرض السودان أرض المبادئ الإنسانية والقيم الدينية والتربوية والتكافل الاجتماعي، نعم: ليس في البادية ولا في الأرياف فقط، بل في عمق العاصمة الخرطوم وفي أرقى أحيائها، تجد الأسرة السودانية هي الأسرة السودانية، عاداتها تقاليدها أعرافها، تكافلها الاجتماعي، مساعدة الفقراء والمعوزين، تماسكها وحدتها تآلفها انسجامها كرمها، لم تتأثر بمغريات المدنية المصطنعة، تستيقظ على أذان الفجر (الصلاة خير من النوم)، تستمتع بتلاوة القرآن، حتى وإن كنت في بيتك، عماد دينهم الصلاة في أوقاتها، تذهب إلى الساحة الخضراء لممارسة رياضة المشي والجري، تجد الكبير والصغير، أسر بأولادها يمارسون الرياضة من بعد صلاة الفجر مباشرة، تشرب القهوة السودانية بالزنجبيل من يد سيدة الشاي صباحا والمنتشرة في كل مكان بحيوية ونشاط – ولا سيما – في شارع الجامعة المكتظ بالطلبة، وفي وجبة الغداء تستلذ أكلة سمك البلطي المشوي، وتروي ظمأك عصرا بعصائر (المانجو، التبلدي، التمر الهندي، الليمون بالنعناع، قصب السكر، الكركديه، البابايه، القشطة الموسمية)، ناهيك عن متعة أكل البطيخ السوداني وما أدراك ما البطيخ السوداني، والصمغ العربي في غنى عن التعريف وكذلك الدخن، أما في العشاء فسوف تجرك رجلك ويقودك أنفك إلى رائحة شواء لحوم أم درمان لتأكل ألذ وأطيب لحم خراف في العالم، شواء مباشر. والله وتالله إن أضعت نفسك فستجدها في السودان، ستجد من يقيم لعلمك وزنا، ستجد من يقدر عطاءك، ستجد من يثمن جهدك، ستجد من يحترم عقلك…
السودان بلد الأوفياء – سوداني .. سوداني .. أنا الأجمل أنا الأفضل، أنا الزول الطيب القاني – سوداني .. سوداني .. أنا كسَلا بكم أهلا، أنا الخرطوم بدمي ووجداني – سوداني .. سوداني .. أنا الفاشر رجل ماهر، وأنا أصلي كردفاني – سوداني .. سوداني .. أنا نجمة بسما دارفور، أنا الثمرة بأغصاني – *سوداني .. سوداني .. أنا سنار تحاكيني وأحاكيها، وملوك العز تيجاني – سوداني .. سوداني .. أنا (النيلين) يازولة، أنا الياقوت بمرجاني – سوداني .. سوداني .. أنا بحري بها أهلي كباشي وجعلاني – سوداني .. سوداني .. تحية من كويت العز إلى (أهل أمدرماني)