منذ مباشرة مسؤولياته رئيساً للوزراء، جعل الدكتور عبد الله حمدوك قضية رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب تتصدر أحاديثه كلما اعتلى منبراً، وبخاصة منبر الهيئة الأممية التي خاطبها في دورتها الرابعة والسبعين، وكذلك في لقاءاته التي جرت على هامش الزيارة، بل شمل الأمر كل ندواته التي عقدها مع السودانيين في دول المهجر، وتعددت في أمريكا وفرنسا والمملكة السعودية والإمارات، وكذلك ظلت مرتكزاً في كل الحوارات الإعلامية التي أجراها مع القنوات الفضائية والإذاعات ومختلف الصحف، وهكذا دواليك!
نحن لا نريد التقليل من شأن هذه القضية، بل يُحمد للدكتور حمدوك اهتمامه الفائق بها لأنها قضية حيوية، ولكن تكرارها بتلك الصورة كاد أن يصيبنا بما اسميه (الخدر الذهني) أي الشلل أو الكسل أو الخمول الذهني، وهو الذي لا يتيح لصاحبه النظر إلى أبعد من محط قدميه. وبالتالي يمكن القول إن التكرار المتواصل لهذه القضية يوحي لسامعه كأنها قضية السودان الأولى إن لم تكن الوحيدة، وهذا بالطبع افتراض غير صحيح. ونخشى أن نمضي في هذا الطريق غير عابئين بقصر الفترة الانتقالية. ولكن إذا شاء الدكتور حمدوك المضي قدماً في هذا الطريق، فينبغي علينا أن نلفت الانتباه لنقطتين هامتين تتعلقان بهذه القضية!
أولاً: صحيح أن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب سوف يفتح أبواباً سبق أن أُوصدت مع دول ومنظمات ومؤسسات، بما يعني تلقائياً أن فتحها سوف ينعكس إيجاباً على الاقتصاد السوداني، ولكن لعل السيد رئيس الوزراء يعلم أن لدينا من القضايا الداخلية ما تنوء بحمله الجبال، وهذه القضايا رهينة بتفكيك دولة النظام البائد، وهو أمر لو تمّ إنجازه بالروح الوطنية الوثابة، فلسوف يكون مردوده أضعاف الذي في علم الغيب ولن يأتي عاجلاً. وهذا بالضبط ما جاء على لسان مساعد وزير الخارجية الأمريكية الذي قال إن رفع السودان من القائمة سيأخذ فترة ليست بالقصيرة. وإلى حين ذلك لدينا البدائل التي تتمثل في استرداد الأموال المنهوبة والتي تُقدر بنحو 70 إلى 80 مليار دولار، وعائدات الذهب التي يتحكم فيها حمدان دقلو (حميدتي) وشركات التمكين والأمن وأصول المؤتمر الوطني التي قدرت بما يفوق المليار ونصف دولار والعديد من المصادر والموارد الأخرى!
ثانياً: في سياق حماس السيد رئيس الوزراء لرفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لا أدري هل فات عليه سهواً أن الحيثيات التي بموجبها تمَّ إدراج اسم السودان في القائمة ما تزال قائمة. وبالتالي فإن رفعها بيده وليست بيد الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة الشأن. ولكن كيف يطالبها – أي أمريكا – والمجتمع الدولي قاطبة بحذف السودان من تلك القائمة، وعلى بعد أميال قليلة من مكتبه هناك (شيخ) اسمه عبد الحي يوسف، يمارس ذات الإرهاب وتُنقل خطبه البائسة على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في دولة الثورة. بل إنه حتى يُسمع صوته لمن ظنَّ أن به صمما، قام بتوجيه شطر من حديثه للسفارة الأمريكية مباشرة!
كانت خطبة الجمعة الماضية تلك نموذجاً للترهات والبذاءات التي ظلَّ عبد الحي يوسف يقذف بها في وجه المصلين بلا حسيب ولا رقيب. وبالرغم من أن ذلك أصبح مألوفاً لسامعيه، إلا أنه في هذه المرة طفح الكيل فمضى في ممارسة إرهابه مع سبق الإصرار والترصد. إذ حشر نفسه في ضمير السيدة ولاء البوشي وزير الشباب والرياضة، وأفتى بكفرها ووجه لها كلاماً جارحاً كفيلاً بأن يرمي به وراء القضبان. ثمَّ تمادى في وقاحته ونبش سيرة الأستاذ محمود محمد طه، صمصامة المستضعفين في وجه جلاوزة الهوس الديني، والذي احتسبته الإنسانية كأشجع مفكر مشى على وجه الأرض في القرن العشرين!
حسناً فعلت الوزير البوشي برفع دعوة قضائية ضده، ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك كافياً، فهذه مهمة مجتمعية تضامنية حتى يتم اجتثاث هذا الوباء من أرض السودان الطاهرة. فلقد استغل عبد الحي ورهطه المنابر استغلالاً سيئاً، جعلوها مطية لمصالحهم ووسيلة للعبث بالدين نفسه. إذ يرسلون الفتوى تلو الأخرى للسلطان الجائر تقرباً ويبتغون رضاءه تزلفاً. فقد كُشفت الحُجب عن وظائف يتقلدها عبد الحي يوسف بلغت نحو 14 وظيفة لكيانات هلامية يجني من ورائها مالاً وفيراً، علاوة على أن الرئيس المخلوع اعترف بمنحه خمسة ملايين دولار لبث سمومه، وما خُفي أعظم!
في واقع الأمر لقد جعل عبد الحي ورهطه منابر المساجد منصات تمارس فيها الديكتاتورية الخانقة في أوضح معانيها. كلما صعدوا تلك المنابر بدأوا في ممارسة هوايتهم في تناول كل شيء، يحللون حراماً ويحرمون حلالاً وما على المصلين سوى السمع والطاعة. فهم (كخادم الفكي) مجبورون على مضض. لا يستطيعون الاعتراض ولا التعقيب ولا منح فرصة للرد، حتى لو كان الكلام فاحشاً أو خارج إطار العقيدة، الأمر الذي يتناقض مع الدين نفسه ومع مدنية الدولة التي نادى بها الذين اسقطوا دولة الإسلام السياسي. نعم للمساجد قدسيتها وهي موضع حبنا، أما الذين يعتلون منابرها فهم موضِع حَربِنا. فممارسات المذكور ورهطه كادت أن تذهب بهيبة الدين بعد أن اتخذوا المنابر حصناً لتكريس ديكتاتورية الفرد!
لسنا في حاجة لضرب الأمثال، ولكن انظروا لتدليس الرجل وإفكه. فإبان التظاهرات وفي خضم حصد النظام أرواح الشباب، عيل صبر بعض المصلين وطالبوه بصلاة الغائب على الشهداء، وخاطبه أحد الشباب المصلين طالباً منه إبداء رأي الدين في ما يجري من تقتيل وسفك دماء، فرفض عبد الحي كأن صلاته تلك ستفتح لهم أبواب الجنة، وعلل رفضه بأن المساجد ليست مكاناً لممارسة السياسة. وكانت هذه كلمة حق أراد بها باطلاً، لأنها أصلاً قد نادى بها المخلصون الحنفاء للدين. ثمَّ تدور الدوائر ويسقط هُبل الذي كان عبد الحي ورهطه يزينون له الباطل، فيقبل المذكور على خلط الدين بالسياسة خلط من لا يخشى حساباً أو عقاباً. عموماً لعل هذا يجعلنا نُصَّعد ضرورة فصل الدين عن الدولة، حتى يحافظ الدين على قدسيته، وتُنقى السياسة من دنس الملتفحين بعباءة الدين!
بالعودة لسؤال العنوان: هل نهجر مساجد الله؟ الإجابة بالتأكيد لا. وغني عن القول إن السودانيين لم يعرفوا الإسلام بعد أن سطت الحركة الإسلاموية على السلطة بانقلابها الذي دبرته في العام 1989، فالسودانيون جبلوا على الإسلام بالفطرة وانتشر في بقاع وطنهم إلى أن أصبح دين الغالبية العظمى، وتعايشوا في كنفه مستصحبين معهم كل عاداتهم وتقاليدهم ومختلف ثقافاتهم. غير أن الذي أضر بدينهم ووطنهم بقدر سواء هو ظهور خفافيش الظلام وتحكمهم في مصائر خلق الله، ذلك ما يجعلنا نعيد ونكرر ما ذكرناه آنفاً بضرورة فصل الدين عن الدولة!
صفوة القول لعل الذي يمهد لهذه الغاية، يتمثل بوضوح شديد في ضرورة أيلولة كل المساجد إلى الدولة ممثلة في وزارة الأوقاف (حاشية: كاتب المقال لم يكن من المتحمسين لتخصيص وزارة للأوقاف والشئون الدينية في ظل دولة مدنية) فيجب أن تخضع المساجد لسلطة الوزارة حتى تضع حداً لهذا العبث الذي أضر بالدين كثيراً بعد أن أضحى ألعوبة في يد أزلام السلطة البائدة. وينبغي أن يكون زمن المتاجرة بالمساجد قد ولى إلى غير رجعة. كنا قد شهدناهم يتقربون للفساد بمنحهم قطعة أرض لبناء مسجد ليكون مدخلاً لفسادٍ مزمن خلف الكواليس. والذي يحيرني أن المسجد المشاد يُسمى باسم رجل البر والإحسان، بينما أنه بيت من بيوت الله.
فهل هي شراكة لله – تبارك وتعالى – في بيته؟ أم هي سرقة اسم الله بنسب اسم المسجد لمشيده؟
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!
faldaw@hotmail.com
10/10/2019