أرجو أن ألفت انتباه القارئ الكريم لاضافات قد اجريتها فى هذا المقال الذي نشر بنفس العنوان في صحيفة ايلاف الغراء بتاريخ 25 سبتمر الماضى وذلك بعد ان توفرت لي نقاط مفيدة من ثنايا الحوارات الجارية حول موضوع رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب . هذه القائمة التى تضعها وزارة الخارجية الامريكية للدول التى تري انها ترعى الارهاب فى العالم وتكون بذلك تلك الدولة عرضة لقائمة من العقوبات الاقتصادية وغيرها .
فقد اصبح الامر يتصدر مقابلات وندوات وتعليقات الاقتصاديين من رئيس الوزراء ووزير المالية . وكنت فد ذكرت فى النص السابق ان الخبراء ” الاسترتيجيين الاقتصاديين منهم والسياسيين ” فى وسائلنا الاعلامية الذين يصعب احصاؤهم عدداَ يكررون بصورة مقلقة رأيهم بأن رفع اسم السودان من هذه القائمة الشريرة هي الخطوة التى من دونها لا يمكن ان تتفتح علينا ابواب المساعدات الخارجية واموالها التى يحتاجها اقتصادنا المأزوم .
ونلاحظ الجهود المكثفة فى هذا الموضوع الذى لا يخلو لقاء بمسؤول من بلد أو من منظمة اقليمية او دولية زارنا او زرناه الا ويكون ضمن اهم الموضوعات التى تناولها اللقاء وتصريحات المسؤول التى تليه انه سيعمل ما وسعه لازالة اسم السودان من القائمة الامريكية سيئة الصيت وخيمة العواقب . لا أريد تبخيس الجهد المبذول والواجب الملزم للدبلوماسية السودانبة لرفع اسم السودان من هذه القائمة وتوصيفه من بين الدول الفاشلة او او المارقة , ولكننى فى نفس الوقت لا أريد ان نكون محل ضعف وابتزاز ونحن نتمتع بوضع جيوسياسي فريد وتنوع ايجابى ليس له مثيل وقدرات فى تقديم المثل لافريقيا ودول اخري فى احترمنا لانفسنا وعزتنا.
اصدرت وزارة الخارجية الامريكية هذه القائمة السوداء فى 29 ديسمبر 1979 كواحدة من اجراءات محارة الارهاب الاقل ضررا من العمليات العسكرية بعد هجوم 11 سبتمبر الارهابى على برجى نيويورك الشهيرين . وكانت القائمة السوداء تضم ليبيا والعراق و اليمن الجنوبي و وسوريا وكوبا ثم ايران وكوريا الشمالية والق بها السودان في 12 اغسطس 1993 ووتجدد سنويا حيث تم شطب اسم بعض الدول وهى اليمن الجنوبى بعد وحدة اليمنين و العراق بعد احتلاله وليبيا وكوبا بعد كاسترو وكوريا الشمالية لارضائها اعيدت مرة اخري لغضبة ترمب المضرية عليها . وبقى السودان حتي يومنا هذا يعانى الامرين ضمن القائمة التعيسة التى تتحدد وتتجدد بوجهة نظر امريكية احادية فجة.
لقد بنت وزارة الخارجية الامريكية قرارها بادراج السودان قى قائمة دول محور الشر هذه على فتح حكومة البشير حدود البلاد للارهابيين وخرقها لحقوق الانسان فى دارفور وقتل الدبلوماسى الامريكى بالخرطوم وعدم الجدية فى مسيرة السلام وعدم قبول فتح المسارات الامنة لمرور المساعدات الانسانية وعلاقاتها مع حماس والجهاد الفلسطينيين وغيرها . وتمت خطوات ايجابية فى العهد السابق باعلان رفع العقوبات الاقتصادية . ثم توالت تصريحات من مسؤولين امريكيين توعد بان المرحلة الثانية من الحوار الاستراتيجى مع حكومة البشير ستبحث موضوع رفع اسم السودان من قائمة الراعين للارهاب .
وارتفعت وتيرة التفاؤل بعد ثورة ديسمبر ضمن تصريحات القائم بالاعمال الامريكى بشأن امكانية رفع اسم السودان من القائمة لدعم مسيرة الاصلاح الاقتصادى للننظام الجديد . وكما ذكرنا عاليه ان القرار امريكى احادى الطابع عند اصداره . وان القرار سيكون امريكيا عندما يرفع اسم السودان من القائمة اللعينة وسيحتاج حينها لموافقة الكونقرس امريكي . ومهما كانت الاراء والضغوط والشهادات الطيبة من الدول الصديقة والمنظمات الاقليمية التى اعربت مشكورة عن عزمها على مساندة السودان فى الامر ولكنه سيبقى سودانيا امريكياَ من حيث ترتيبات العلاقات بين البلدين وشأناَ امريكياَ بحتاَ عند اتخاذ القرار فى المؤسسات الامريكية . وحتى الان لا يلوح في أفق خطوات امريكية جادة لرفع اسم السودان من القائمة اللعينة , ولا يبدو ان تصريحات الدول المتعاطفة مع السودان مثل فرنسا والمانيا والسعودية قد تركت اثار فعالة علي متخذى القرار الامريكيين . ويذهب البعض الي أن هذه الأنشطة الدولية قد تثير حفيظة الادارة الامريكية من ضغوط تراها غير مناسبة وهي فى مرحلة تقييم الأوضاع الجديدة في السودان لتتبنى سياسات جديدة معه وفق حساباتها و مصالحها.
صحيح ان الحظر القائم علي السودان نتيجة وضعه في القائمة الامريكية المشئومة مدمر لاي علاقات تعاون واستثمار أمريكي مع البلاد وتتعدى اضراره العلاقات الاقتصادية الثنائية انما تمتد لتؤثر سلبا في أي اجراءات مصرفية للتمويل والاستثمار مع بلدان أخرى وذلك برفع قضايا في المحاكم الأمريكية علي البنوك التي تخرق الحظر وتفرض عليها غرامات بمليارات الدولارات كما حدث لبنك باريبا البلجيكي وتداعيات ذلك علي الجهات المالية الأخرى خوفا من السطوة الامريكية .
اننى افترض انه لا طائل من جهود إقناع الإدارة الامريكية بالاعتراف بأن السودان قد شهد ثورة ديسمبر 2018 المجيدة وما أحدثته من تغيير عظيم في البلاد . فالقائم بالاعمال الامريكى كان شاهدا ومتعاطفاَ مع الثوار فى محيط الاعتصام . واعتقد جازماَ ان الاجهزة الاستخبارية الامريكية بكل امكانياتها هى سيدة العارفين بادق تفاصيل ما جرى فى السودان من اقتلاع لحكومة البشير المتهمة بدعم الإرهاب الاسلامى . وانه قد تم تشكيل حكومة مدنية انتقالية علي رأس اولوياتها تحقيق السلام والتمهيد لقيام حكم ديمقراطى بانتخابات حرة وشفافة .
وان نجاح الفترة الانتقالية والتحول الديمقراطى يعتمد على اصلاح الحال الاقتصادى للبلاد من الداخل وتدفق المساعدات من الذين بدعمون التغيير والديمقراطية وحقوق الانسان من الخارج .
ولكن امريكا لا تريد ان تتعامل مع الاوضاع الجديدة فى السودان وفى العالم الا من زاوية مصالحها الضيقة . ان امريكا هى التى قامت تاريخياَ على الابادة الجماعية، وهى التى اشعلت النيران فى جنوب شرق اسيا حتى هزمت شر هزيمة فى فيتنام ولاوس وكمبوديا .
وهى الدولة التى قفلت حدودها عن جارتها المكسيك وكانت وراء الانقلابات البشعة فى دول امريكا اللاتينية ووقفت عقبة امام تخلص الارجنتين من ديونها . والان تخوض معارك غريبة الشكل والمضمون فى سوريا وليبيا وتأجج الصراع فى منطقة الخليج وتنحاز لقتل الاطفال فى فلسطين، وهى التى رفضت التوقيع على اتفاقيات التغيير المناخى لتسمم اجواء العالم وكل ذلك قليل من كثير . كما انها تدرك ما فتحته عقوباتها من ابواب للفساد فى السودان وبمشاركة بنوك اوربية وسماسرة لتغيير الاموال الى دولارات وتحويلها عبر المصارف وتجاوز التعاملات البنكبة بالتزوير لتذهب الاموال لجيوب ارباب النظام والسماسرة .
وتعرف امريكا عبر اجهزتها كم صرفت حكومة البشير على سماسرة مجموعات اللوبى لرفع العقوبات واسم السودان من القائمة اللئيمة . اذن ليست امريكا هى الدولة التى تعطى دروسا فى حقوق الانسان والارهاب . وليت لدول العالم قائمة سوداء موحدة لكانت الولايات المتحدة الامريكية صاحبة الجدارة الاولى بها.
فوق كل هذا وذاك فان الادارة الامريكية كانت تجرى حوارا استراتيجيا وارتباطاَ مع النظام البائد وترتبط أجهزتها الاستخباراتية بعلاقات وثيقة بجهاز الامن والمخابرات السوداني فى عهد البشير. و اعلنت فى مرات عديدة ارتياحها لتعاون السودان معها فى محاربة الارهاب . اذن القضية ليست ارهاب ولا حقوق انسان , يكفى ان نشير هنا لعلاقات امريكا الحميمة مع دول فعلت ما فعلت فى خرق حقوق الانسان والصحفيين . ولكن هناك مسارات واجندات امريكية لابد من سبر غورها والاعداد الجيد لاى حوارات قادمة، والابتعاد عن ترديد التصريحات والفرح بالتلويح يتصريحات مماثلة برفع الحظرمن الجانب الاخر . ان علينا التخاطب مع امريكا باللغة التى تعرفها وهى لغة المصالح وتوازن القوى.
ان من واجبنا تنشيط تحركنا في الاتجاهات الاخري لفك الاختناقات وازالة العوائق التى تعترض انسياب العون الخارجى مع المؤسسات المالية الدولية والاقليمية مستفيدين من التعاطف العالمي مع جهود السودان بعد الثورة للانتقال الي دولة ديمقراطية ولاصلاح حالنا الاقتصادي. وهناك بدائل عملية للتفاهم مع هذه المؤسسات لحل قضية الديون الخارجية بعد عجز الحكومة السابقة عن الايفاء بما التزمت به من اقساط في سداد الديون مما جعل هذه المؤسسات توقف سحب السودان من القروض الميسرة والمنح الراتبة المخصصة في برامجها.
ومن غير المعقول أن يستمر سوء ادارة هذا الملف في فقدان السودان المنح والقروض المخصصة له. واذكر ان رئيس بنك التنمية الافريقي قد اعرب خلال زيارته للسودان قبل عامين للمساعدة في إزالة عقبات التحويلات المالية من السودان لسداد الاقساط واليه بعد فتح الابواب امام انسياب المنح والقروض للسودان وبل واستجاب لطلب الرئيس السابق بالمشاركة فى وضع إستراتيجية تنموية شاملة فى البلاد. ان من صميم مبادئنا في سياسينا الخارجية التى يجب ان نستعيدها هي التعامل بعزة فى علاقاتنا مع الدول وفي المنظمات الافليمية والدولية. علي ذلك علينا فى المقام الأول التركيز على إصلاح حالنا بحسن إدارة مواردنا الداخلية ومعرفة وزننا المؤثر فى الامن والاستقرار فى المنطقة وتبادل المنافع وفق ذلك مع الجيران والآخرين.
ويكفى لاحتياجاتنا العاجلة و المتواضعة حاليا أن نكشف فساد النظام السايق وشركاته الخربة ونوقف كل ذلك عند حده، ونعيد أموالنا المنهوبة فى الداخل والخارج الى الخزينة العامة، ونوقف تهريب الذهب ولصوصه فى عمليات السوق. وحصيلة كل ذلك مليارات ضخمة تجعلنا نتفاوض مع الامريكان وغيرهم من موقع المصلحة المشتركة والتبادل المتكافئ , حينها سيعرفون وتعرف مجموعات الضغط عندهم اهمية السودان ووزنه وضرورة تحريك مؤسساتهم المعنية لرفع العقوبات عنه وشطب اسمه من قائمة الراعين للارهاب حتى يتمكنوا من الاستفادة منه ومن امكانباته الهائلة بالاستثمارات وسهولة المعاملات وحصاد الفوائد المشتركة.
12 أكتوبر 2019