لاحظت على ناصية البيت الأمامي تلفزيونا كبيرا استغنى عنه صاحبه لإتيانه جديدا ووضعه لمحتاج لكنه قابع منذ أيام دون أن تمتد له يد فقلت:
ليته كان في السودان!
امام بيتنا ملتقى ٤ طرق. ارى عاملا على كتفه طلمبة شأن عمال مكافحة الناموس عندنا وعلى يده جهاز يماثل البندقية الخرطوش يلتقط به سواقط الشجر من الورق من على الشوارع وحوافها.
الحين يتوقف بص أحد الخطين العابرين جيئة وذهابا وهو يتألف من عربتين مدمجتين بمقاعد وثيرة. السائق يدلي سلم الصعود ليسهل الارتقاء للأطفال والمسنين والمرضى حتى بعجلات حراكهم. وركابه قليلون عادة. وتسري تذكرته ٤ ساعات تطوي بها أيا من خطوط المدينة’ التي تمتد فيها خطوط المترو وكذا التروماي الكهربي الذي كان يهرول في العاصمة المثلثة زمنا لم ندركه.
ننعطف يسارا بسيارتنا على أسفلت مستو بلا حفر وأخاديد. ولكل منطقة نوعية تناسبها من الأسفلت وفق دراسات مركز الأسفلت الاتحادي .. سواء مطيرة أو قاحلة .. مسطحة أو متعرجة .. صخرية أو رملية’ وهكذا.
وتربط الولايات ال ٤٨ المتصلة جغرافيا شبكات عنكبوتية من الطرق ورحلات الطيران الخاصة والعامة والسكك الحديدية التي تنقل ٣ ملايين و٥٠٠ ألف مسافر يوميا فيما تتموضع هاواي التي ولد فيها أوباما في قلب المحيط الهادئ. أما الولاية الخمسون ألسكا كبرى الولايات مساحة التي اشترتها أمريكا من روسيا القيصرية ب ٧ ملايين و٢٠٠ ألف دولار فقصية قبالة كندا غربا.
نتقدم قليلا ونلحظ على الطريق عملا دءوبا شاقا في الصيانة يؤديه خواجات من الجنسين بهمة بزي موحد والخوذات المعدنية الواقية على الرءوس. وينتظم العمل كذلك في بناء مجمع شاهق مدت فيه القضبان الفولاذية وتتحرك في جنباته الآليات على مدار الساعة بانضباط فلا يوجد هنا مجال لتأخر الأسطى أو تقاعس العمال. العمل مقدس وهو سر ازدهارهم في هذه البلاد الواسعة التي تعد ثالث بلاد الدنيا مساحة بعد روسيا وكندا وكذلك الثالث سكانا بعد الصين والهند بتعداد ٣٢٧ مليونا.
وقد يسأل: ما لغتها؟
الإجابة؛ لا توجد لغة رسمية رغم طغيان الإنجليزية واعتمادها بعض الولايات لغة رسمية. ربما يتأتى ذلك احتراما للتنوع الثقافي هنا فكثيرون لايزالون يتحدثون بلغاتهم الأم كالإسبانية التي تشكل اللغة الثانية تليها الصينية ثم الفرنسية وغيرها رغم جنسيتهم الأمريكية. وقرر اعتماد العربية من بين ١٣ لغة في تعداد العام القادم أول مرة لوجود ٣ ملايين و٥٠٠ ألف أمريكي من أصول عربية بينهم أكثر من ١٠٠ ألف سوداني فيما وصل أول سوداني إلى أمريكا ١٩٠٤.
أمامنا مدرسة فلا مفر من خفض السرعة وفق اللافتة والويل لمن يتجاوز السرعة في محيط المدارس.
السيارات تتدفق في كل المسارات ولأن محتوى سيارتنا يزيد على راكبين من حقنا الانفلات من بطء الحركة في مسار واتخاذ آخر في بلاد تعج بالسيارات التي تصل أعدادها إلى ٢٥٠ مليونا من كل الشركات والدول. وتصنف ديترويت بأنها مهد صناعة السيارات في أمريكا موطن الرائدين هنري فورد وأولدز’ التي احتضنت شركات فورد وكرايسلر وجنرال موترز العملاقة. ويعد المغرب أعلى الدول العربية إنتاجا للسيارات. كما ينتجها السودان بقدر محدود عبر شركة جياد بتعاون كوري مثل دول أخرى. وليس عسيرا التصنيع الكامل وقد أطلقت رواندا حديثا المارقة من الحرب الإثنية الضروس جوالين ذكيين كاملي الصناعة إفريقيا في وثبة فريدة’ علما أن الجوال يحوي ألف قطعة.
وبما أن أمريكا راعية الرأسمالية ومركزها فالحرية مطبقة فالاستيراد مفتوح والمنافسة الحكم حتى إن هيونداي الكورية كانت سيارة العام أكثر من مرة وتتصدر مبيعاتها القائمة. ويعد إطلاق مواهب الفرد من فلسفاتها ومن شعاراتهم:
إن الطريق مفتوح من الكوخ إلى البيت الأبيض.
و ” دعه يعمل .. دعه يمر “.
الحركة سلسة رغم ضخامة أعداد المركبات من مختلف الأحجام ومرد ذلك أن رخصة القيادة لا تعطى إلا بعد دراسة ومشقة واختبارات متعددة فلا مكان للوساطة أو غيرها هذا فضلا عن أن من يرتكب مخالفة يحاسب بدقة وتدون في سجله وبالتالي ترفع قيمة التأمين له. أما المخمور فتسحب رخصته. ويوجد محامون مختصون للترافع في قضايا المرور.
يسارنا أحد فروع فندق هيلتون الشهير وأمامه تسكن مجموعة عزاب سودانيين في مجمع وغير بعيد مجموعة أخرى وعلى اليمين أسر سودانية وكلنا على تواصل حميم.
الشوارع تخلو هنا من معاكسات الجنس الآخر ولهذه مواضعها الحية والنتية ومن يجرؤ على ذلك على الملأ يقع في المحظور والعقاب الرادع فشهادة المرأة تقيم عاليا. ولا يلحظ تبادل السائقين الشتائم ففي دقائق تأتي دورية شرطة المرور وتحقق. أما لعلعة البوري المزعجة التي عانيت ضوضاءها في القاهرة ودلهي فلا وجود لها.
كل ٣ أشخاص يمتلكون سيارتين هنا تقريبا. ومن يود سيارة يطلبها عبر برنامج أوبر المعادل لترحال عندنا. أما لو رغبت في تأجير سيارة فمتاح في المكاتب المختصة أو عبر النت دون أن تقابل شخصا بواقع يراوح ١٥٠ دولارا في اليوم. وعند الانتهاء من سفريتك تودعها في فرع الشركة حيث وصلت فالأمور ميسرة.
السيارات التي تسير بالكهرباء تتعاظم أعدادها باطراد وفي مدى أعوام لا تتجاوز عشرة سيوقف إنتاج سيارات مشتقات النفط نهائيا. الصين مثلا تملك مليون موقع لتزويد السيارات بالطاقة الكهربية حتى الآن. قريبا وداعا للنفط.
على اليمين مطار سيتاك الدولى وقربه مرآب على الهواء الطلق لإيداع المسافرين سياراتهم ريثما يعودون من مشاويرهم بالطائرة في مدن أخرى مقابل نحو ٦٠ دولارا اليوم.
والساحة رحبة تضاهي ميدان عقرب في بحري وكذا معارض السيارات المستعملة لكنها بحالة جيدة وأسعارها من ألف دولار صعودا. ومنها يورد رجال أعمال للخارج فلا وجود في شوارعهم لسيارات تضخ الدخان الأسود تملأ به الرحب ولا لنافخات فرقعات صوتية تصطك بها الآذان.
ننحو يمينا عند فندق ماريوت البهي ونتوقف في ساحة تنتظم فيها سيارات المتسوقين على خطوط معدة أمام مجمع تجاري مع تخصيص مواقع للمعاقين وقدامى المحاربين. وتضيء الساحة ليلا بالطاقة الشمسية رغم آلاف السدود والتوليد الكهرومائي الرخيص نسبيا وإنتاج النفط الصخري المهول ونحن ساهون عن استثمار طاقة شمسنا الجبارة والاحترار الذرووي. وقد دعا اتحاد الغرف الصناعية قبل أيام لتبني منظومة الطاقات المتجددة وفي طليعتها طاقتا الشمس والرياح في كهربة القطاعات السكنية والخدمية والإنتاجية.
عدنا للبيت بعد جولة تسوق وأدخلنا السيارة في الحديقة التي لطالما أفضل الجلوس فيها على برندة مفتوحة عليها عند الأصائل فرحا بأشعة الشمس الضنينة وهي مسورة بسياج معدني ونباتي لكنه لا يحجب أنظار العابرين في الشارع العام المتاخم لانخفاضه غير أني لاحظت أنهم يسرعون الخطى في طريقهم دون التفاتة وانشغال بالغير وهو سلوك يتسق مع قيمنا:
من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه!
كما يتساوق مع حكمة تشرشل الرئيس البريطاني الأشهر حائز جائزة نوبل في الأدب:
لو حرصت على التوقف في الطريق لقذف كل كلب نابح بحجر فلن تصل للهدف!