كلمة السيدة روزاليند مارسدن أمام الندوة السنوية لجمعية دراسة السودان وجنوب السودان (sssuk.org) في لندن، 7 سبتمبر 2019
ترجمة: إيمان الفاضل الجاك شريف
تحرير: معتصم الحارث الضوي
عندما اجتمعنا في سبتمبر السنة الماضية، لم يكن بوسع أي منا أن يتكهن بمآل الوضع الحالي في السودان، إذ حققت الحركة الساعية للديمقراطية نصرا عظيما بإقناعها المجلس العسكري بالقبول بسلطة ائتلافية مع المدنيين، وبالأهداف المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية.
لم تتحقق، بطبيعة الحال، أهداف الثورة؛ الحرية والسلام والعدالة حتى الآن، ولكن تكوين الحكومة الانتقالية قد وضع الأسس اللازمة، وطرح طريقا للانطلاق.
إن التحديات التي تواجه حكومة حمدوك والحكومة الانتقالية الجديدة شاقة جدا، فثلاثون عاما من نظام البشير قد نقلت البلاد في وضع حرج؛ فالاقتصاد مكبّل، والفساد شائع، ومؤسسات الدولة ضعيفة ومسيسة تماما لصالح النظام، وتوجد حركات وميليشيات مسلحة متعددة، وتم بيع أصول عامة ومساحات شاسعة من الأراضي، وما زال أفراد ينتمون إلى الدولة العميقة يهيمنون على قطاعات رئيسة من الاقتصاد والخدمة المدنية والأجهزة العسكرية/ المدنية، وملايين النازحين ما زالوا يعيشون في المخيمات بينما يقطن مستوطنون جدد في مناطقهم، وما زال قطاعا الصحة العامة والتعليم في حالة مزرية، وما زال الفقر صارخا، والتمييز الجندري، وقلة الفرص أمام الشباب، والفوارق الطبقية الحادة بين النخبة ومعظم الشعب، والقائمة تطول من مظاهر الدمار الذي يفوق التصور.
تبدو الستة عشر مهمة التي يجب على الحكومة الانتقالية الاضطلاع بها حسب الوثيقة الدستورية شاقة وعسيرة، إذ تبدأ بإحراز سلام شامل عادل خلال الستة أشهر القادمة، وحل الأزمة الاقتصادية، وإعادة إعمار المناطق المتأثرة بالحروب، وتحقيق العدالة والمساءلة، وإصلاح الخدمة المدنية، وإلغاء القوانين المتشددة، وإصلاح المنظومة الأمنية، وعقد مؤتمر دستوري وطني.
هذه أجندة ضخمة لأي حكومة، وخاصة عندما نأخذ بعين الاعتبار طبيعة المعوقات التي تواجهها.
أولا: أمامها ثلاث سنوات ونصف سنة فحسب، وهذه فترة قصيرة للغاية لتحقيق التغيير .
ثانيا: تضم الخدمة المدنية موظفين تم تعيينهم خلال الثلاثين عام الماضية على أسس إيديولوجية أو بسبب الولاء للنظام بغض النظر عن المؤهلات، ومنعا للتعسف ضدهم غضوا الطرف والتزموا الصمت، ولذا فإن الوزراء التكنوقراط سيجدون أنفسهم معزولين في وزاراتهم دون توفر الدعم من الكوادر المؤهلة التي تتميز بالديناميكية والرغبة الصادقة في إنجاز التغيير.
ثالثا: أُحيلت مهمة إصلاح المنظومة الأمنية للموسسة العسكرية، وليس لدى الحكومة بديل عن تقليل الصرف العسكري الذي يستنزف 70% من الميزانية الحكومية، ولكن تقليل الإنفاق على الجنرالات يُعد خطوة تحفها المخاطر.
وبالرغم من وجود أغلبية مدنية في المجلس السيادي إلا أن الإجماع غائب، إذ يتطلب اتخاذ القرارات الموافقة بنسبة الثلثين، مما يعني أنه بوسع العسكريين تعطيل القرارات التي لا تناسبهم.
رابعا: يوجد استقطاب اجتماعي نشأ عن الغضب في المناطق المتأثرة بالحروب، وذلك بسبب التهميش التاريخي المستمر إلى الآن، ولأن سكان الخرطوم لم يكترثوا لمعاناتهم عبر سنين طويلة. إن الكثير من ضحايا النزاعات التي شهدتها تلك المناطق يعانون صدمات نفسية حادة.
خامسا: يوجد ضغط اجتماعي ضخم لتحقيق العدالة والمساءلة عن شهداء ثورة ديسمبر ومذبحة 3 يونيو، إضافة إلى جرائم النظام السابق منذ 1989، ولكن اتفاقية المحاصصة على السلطة من الهشاشة مما قد لا يحقق ذلك الهدف.
أخيرا، والأكثر إثارة للقلق هو أن خزينة الدولة فارغة.
قال عبد الله حمدوك إن السودان يحتاج إلى ٨ مليارات دولار خلال السنتين القادمتين لتغطية تكلفة الاستيراد، و ٢ مليار أخرى من العملة الصعبة للإيداع في البنك المركزي خلال الثلاثة شهور القادمة لوقف انهيار العملة، وهذه مبالغ ضخمة يصعب التوقع بأن توفرها الحكومات الغربية خلال فترة وجيزة، خاصة في ظل وجود عوائق قانونية وفنية؛ أهمها متأخرات الديون السودانية المتراكمة، وتصنيف أمريكا للسودان دولة راعية للإرهاب، ويجب معالجة تلك العوائق قبل الحديث عن إمكانية الحصول على أي حزمة مؤثرة من المساعدات المالية من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، ولذا فإن الأمل معقود بأن تقدم دول الخليج المساعدة خلال الفترة القادمة، والوضع الأمثل أن تكون تلك المساعدات جزء من خطة دولية مدروسة تضخ الأموال عبر وزارة المالية.
تتطلب الكثير من المهام المعقودة على الحكومة الانتقالية المال، وخصوصا مسألة تفكيك الدولة العميقة عن طريق إصلاح القطاعين العام والأمني، وعلى سبيل المثال عبر الإحالة إلى المعاش أو الإقالة لغير المؤهلين أو من يقوضون عملية الإصلاح، إذ يتطلب ذلك دفع المعاشات التقاعدية ومستحقات نهاية الخدمة لمن ستتم إقالتهم، علاوة على سداد الرواتب للموظفين الجدد المؤهلين، مما من شأنه أن يزيد تكلفة التوظيف. وإذا ما تمت إقالة الموظفين دون اتخاذ تدابير مناسبة، فمن المحتمل أن يكونوا تجمعات تعمل على إثارة البلبلة.
ثمة حاجة لوضع الأولويات للخطوات الإصلاحية، وتبويبها في إطار خطط آنية وقصيرة أو طويلة المدى، ويمكن الشروع في بعض الإصلاحات عند بداية الفترة الانتقالية، ولكن البعض الآخر سيستغرق زمنا أطول من الفترة الانتقالية برمتها. أما إصلاحات القطاع الأمني فمن المتوقع أن تكون الأصعب والأكثر حساسية من الناحية السياسية، ولذا يجب أن يكون لدى الحكومة خطة واضحة لإدارة العملية الإصلاحية، وأن ترحب بالشركاء الدوليين الذين بوسعهم تقديم الدعم.
إن طبيعة الإصلاح في القطاعات السياسية والاقتصادية والأمنية متداخلة، وكما ذكر السفير البريطاني عرفان صديق في أحدث مقالاته “الفجر الجديد للسودان” فإنه يجدر بالحكومة الجديدة اتخاذ خطوات سريعة وحاسمة في اتجاه تحقيق السلام، وحرية التعبير، وحقوق الإنسان، وفتح المعابر لوصول المساعدات الإنسانية للاجئين والنازحين إذا ما أرادت أن تقنع العالم بأنها تستحق المساعدة الاقتصادية.
بعبارة أخرى، فإن العالم يرغب في التأكد من قدرة المدنيين على بسط سلطتهم وإحداث التغيير الملموس، وبالنظر إلى كل هذه العقبات فإن إدارة التوقعات ذات أهمية قصوى، خاصة وأن السودانيين سيتعجلون حدوث تغيير سريع.
لذا فإن من الأهمية بمكان أن تُنشىء الحكومة قنوات للتواصل والتشاور، لأن التحسن البطيء قد يقود إلى احتجاجات في الشارع، وهذا من شأنه ظهور الاتهامات للحكومة الانتقالية التي يقودها المدنيون بالفشل، أو أن يفتح المجال لتجدد العنف الذي تمارسه القوات الأمنية في الشارع، مما قد يفضي إلى منحى سلبي قد يصيب عملية التغيير بالشلل.
إن حصول عبد الله حمدوك والوزراء التكنوقراط على المساندة السياسية القوية من قوى الحرية والتغيير متطلب أساسي لتحقيق النجاح، وهنا تجدر الإشارة إلى التوتر والتنافس في أروقة قوى الحرية والتغيير كما رأينا أثناء مرحلة تشكيل المجلس السيادي ومجلس الوزراء.
ولكن بما أننا تجاوزنا تلك المرحلة، وتأسس مجلس للوزراء بأغلبية مدنية وبترشيحات من قوى الحرية والتغيير، فإن من الضرورة بمكان أن تتحد قوى الحرية والتغيير لتصبح القيادة السياسية الفاعلة، وتقدم برنامجا سياسيا واضح المعالم.
إن الفرقة ستصب في أجندة أفراد النظام السابق من ذوي المصلحة في إضعاف الحكومة الانتقالية تمهيدا لإفشالها بالكامل.
على الرغم من كل العقبات والصعوبات، توجد فرصة للنجاح ومساحة للتفاؤل:
بالنسبة لي أكبر سبب للأمل هو الشجاعة والعزيمة التي أظهرها الشعب السوداني لإبقاء شعلة الثورة متقدة حتى يتحقق هدفه في بناء سودان جديد.
إن الطريقة التي نظمت بها لجان المقاومة الاحتجاجات، والروح التي شهدتها منطقة الاعتصام، والطبيعة السلمية للاحتجاجات كانت استثنائية ومذهلة. إن أفضل ضامن لأي اتفاق سياسي هو الدعم والالتفاف الشعبي، ولذا لا بد من التشاور والتواصل، ومشاركة المرأة والشباب والمهمشين.
أمام الحكومة الجديدة فرص كبرى، وذلك لأن السودان يحظى، ولأول مرة منذ سنوات طويلة، بقائد له احترام كبير محليا ودوليا.
لعبد الله حمدوك رؤية واضحة عن الأولويات الوطنية، وخبرة ثرة، وصفات شخصية متميزة، ومما يبعث على التفاؤل أيضا أن مجلس الوزراء يضم عددا من الخبراء المرموقين، ويشمل وزيرا للمالية كان يعمل خبيرا في البنك الدولي، وخبراء في مجال حقوق الإنسان. كما أن تعيين أول سيدة في تاريخ السودان على رأس وزارة الخارجية من شأنه أن يبعث إشارات إيجابية، ومن الواضح أن رئيس الوزراء قد سعى لتحقيق المزيد من التنوع الجندري والمناطقي في اختياراته، وما تزال بالطبع ثمة حاجة لفعل المزيد في هذا الخصوص.
إن وجود فريق اقتصادي مقتدر يخلق فرصة لاستقرار الاقتصاد ووضع البلاد على طريق التعافي والتطور الاقتصادي.
تحظى الحكومة الجديدة بدعم سياسي دولي، ولذا من المتوقع أن يكون موقفها التفاوضي قويا فيما يتصل بالضغط لتحسين النظرة الدولية إلى السودان، ولقد وعدت بريطانيا بتقديم الدعم السياسي والمساعدة الاقتصادية والفنية لإنجاح العملية الإصلاحية في السودان.
تلقى عبد الله حمدوك دعوة بالفعل لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أسبوعين، وهذا سيكون أول ظهور دولي ذا تأثير له، وإنني أثقُ بأنه سيترك انطباعا جيدا للغاية على القادة الدوليين.
أما الفرصة الكبيرة الأخرى لإنجاح المشروع فتتمثل في إنجاز السلام، والذي يُعدُ فائق الأهمية لتحقيق كل من التحوّل الديمقراطي والإصلاح الاقتصادي.
في الماضي كانت الحركات المسلحة والنظام القديم يتفاوضون بأسلوب عدائي، ولم تكن ثمة رغبة حقيقية في السلام من قبل الحكومة، ولكن هذه المرة فإن جميع الأطراف شركاء في الثورة.
أعلن رئيس الوزراء قبل عدة أيام عن التحضير لإنشاء لجنة للسلام، ورد عبد العزيز الحلو مرحبا بالدخول في مفاوضات للسلام مع الحكومة الانتقالية، قائلا إن الحكومة الانتقالية لديها قبول في أوساط السودانيين، كما اتفق طرفا الجبهة الثورية السودانية على توحيد موقفهما التفاوضي، وذلك على الرغم من امتعاضهم لعدم حصولهم على دور أكبر عند تشكيل الحكومة، ولكن الجبهة الثورية السودانية قد نجحت في تضمين فصل فائق الأهمية في نصوص الوثيقة الدستورية، مما يُعد إنجازا مرموقا ربما كان سيغيب عن الوثيقة.
إن المشوار ما زال طويلا، خاصة عندما يحين الوقت لمعالجة القضايا الكبرى، ولكن يبدو أن الحكومة والحركات المسلحة تدركان جيدا وجود فرصة عظيمة لتحقيق السلام.
أختمُ بالقول إنه رغم عظم التحديات إلا أن الفرص أيضا كبيرة، ولذا يتوجب علينا دعم عبد الله حمدوك وفريق عمله، بغرض زيادة الفرص لنجاحهم، كما يجدر بالمجتمع الدولي تقديم أقصى الدعم الممكن لدفع البلاد إلى الأمام.