ذكر لي شخص قابلته مصادفة انه حضر نقاشاً بين مسؤول سوداني بشركة الاقطان مع مستورد صيني جاء ليشتري قطن خام من السودان. ذكر هذا الشخص ان المسؤول السوداني قال للمشتري الصيني أعطيك القطن مجانا على ان توقع مع حكومة السودان عقد شراكه تقوم بموجبه شركتك بالتصنيع، وبعد خصم تكلفة التصنيع يكون الربح مناصفة بينك وحكومة السودان ولكن الصيني رفض العرض وفضل شراء القطن. لان سعر طن القطن اقل من سعر دستة القمصان!!! من هنا ندرك ضخامة القيمة التي يضيفها التصنيع المحلي للسلع.
هذا في مجال المنتجات. اما في مجال الماكينات فالبون شاسع، لذلك نجد بلدان مثل اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وهى بلدان لا تمتلك ثروات طبيعية ضخمة تذكر ولكن اقتصاداتها قوية، لاعتمادها على التصنيع بشتى انواعه.
عرف السودانيون الصناعة باكراً. مثل صناعة السواقي والتي تعتبر من الصناعات المعقدة في زمانها وصناعة عربات الكارو والمراكب والغزل والنسيج وعصارات الزيت وغيرها من الصناعات المرتبطة بالزراعة والدواب والانعام. وفى فترة المهدية دخلت صناعة سك النقود وصناعة البنادق والذخيرة والطباعة.
وفي فترة الاحتلال الانجليزي (1898-1956) انتشرت عدد من الصناعات الصغيرة مثل حليج الاقطان وتعليب اللحوم اثناء الحرب العالمية الثانية، وادخل بعض المستثمرين الاجانب صناعة الزيوت والصابون والتي نافسهم فيها بعض السودانيين، وقامت الورش لأغراض تصنيع المستودعات وصناديق اللوارى والباصات والمباني الحديدية والترلات. واسس الامام عبدالرحمن عدد من الورش لتدريب العمالة المهرة في مجالات صيانة وتشغيل الجرارات والماكينات الزراعية بالإضافة إلى معاهد لتعليم المهن والمحاسبة.
وفي الستينات من القرن العشرين قامت شركة متشل كوتس بإنشاء مصنع لتجميع اللواري البدفورد في بورتسودان، وقد اوشك محجوب اخوان ان يفتتح مصنع تجميع لسيارات المازدا اليابانية بالخرطوم قبيل انقلاب مايو الشيوعي المشؤوم الذى نسف كل تلك الجهود بقرارات التأميم والمصادرة الجائرة، وقدم بعض اصحاب تلك الاعمال للمحاكمات، ومن ضمنهم كان محجوب اخوان والد الشهيد مجدى محجوب الذى اعدمه الكيزان في بداية انقلابهم لحيازته دولارات كانت في خزانة والده ضمن الورثة التي تم حصرها ولم تقسم بين الورثة الي ذلك الوقت.
وقبل وقوع انقلاب الكيزان الاشد شؤماً، وإبان النصف الثاني لحكومة مايو وأثناء الديمقراطية الثالثة، ازدهرت العديد من الصناعات الصغيرة في السودان وتطورت صناعة الغزل والنسيج ودباغة الجلود وغيرها من الصناعات، حيث تم تصنيع قشارات الفول ومعدات مصانع الحلاوة الطحنيه والطواحين بأنواعها المختلفة ومعاصر الزيوت ومصانع الصابون اليدوية وبعض المعدات الزراعية.
وكانت هنالك محاولات جادة لتصنيع الطلمبات ولكن انقلاب الانقاذ المشئوم وسياسات الكيزان الغبية دمرت كل ذلك ضمن برنامجها المنهي لتدمير السودان وانسانه.
برغم التحديات والدمار الكبير لابد ان تكون لنا محاولات جادة لتوطين التصنيع وخاصة في مجال الانتاج الزراعي والحيواني. ويمكن ان نستورد بعض الأجزاء اللازمة كما يحدث في معظم الدول الصناعية الكبرى. ويجب ألا نعتمد على استيراد المعدات الكاملة، لان الدول الاجنبية لن تجهد نفسها لتوفر لنا آليات تتناسب مع احتياجاتنا وأنواع الانتاج الزراعي والحيواني المختلف عندنا، كما أن بيئات وطقوس تلك الدول يختلف تمام الاختلاف عن بيئاتنا المحلية مما يعرض تلك الآليات للتلف والعطل المتكرر، وبالتالي يؤثر على المردود الانتاجي لتلك الاليات والمعدات.
فالخارج مثلا لن يوفر لنا ماكينة او آلة لطق وجنى الصمغ العربي، برغم حاجة العالم له، لأنه إنتاج غريب عليهم، وتفضل تلك الدول ان تشتريه خاما وبأقل سعر ولايهمها أي عناء نعانيه في جنيه، في حين ان بإمكاننا وبقليل تشجيع ودعم من الدولة للقطاع الخاص يمكن تصنيع معدات تقوم بجني الصمغ وتصنيعه محليا وبأقل التكاليف ولا نصدره الا مصنعا وبأسعار أعلى. كذلك الحال بالنسبة لحصاد الكركديه الذى لم يفكر احد ان يصنع لنا حاصده تناسبه، وكذلك الفول والسمسم والذرة والدخن وغيرها من المنتجات الزراعية.
وطالما ان الحاجة هي ام الاختراع فلماذا لانفعِّل مواهبنا في اطار أجواء الثورة المباركة ونشرع في تصنيع احتياجاتنا اولا بأول ونخطو خطوات جادة وشجاعة نحو احياء التصنيع وتوطينه.
وفي مجال الانتاج الحيواني أرى من المحزن جداً ان نستورد المسالخ من اروبا بملايين الدولارات، في حين بالإمكان تصنيعها محلياً منفردين او بالشراكة مع افراد أتراك او غيرهم وبأقل من نصف قيمة استيرادها من الخارج.
وحتي ننجح في مجال توطين التصنيع المحلي لابد من إقامة البني التحية اللازمة للبحوث في المجالات المتعلقة بمعدات آليات التصنيع الزراعي والحيوان ولابد من تحديد ميزانيات كافية لها في ميزانية الدولة ونبعث الدارسين الي الخارج للتأهيل والتدريب، وفق خطة طموحة تهدف للاكتفاء الذاتي من المصانع والمعدات والآليات ومن ثم التصدير. بدل ان نكون مستوردين لها؟ وهذا ليس افراط فى التفاؤل بل هو افتراض موضوعي ويحقق مردود اقتصادي بجدوة عالية. هذا برغم ان دولة الانقاذ جعلتنا نستورد كل شيء من الخارج الا التمباك.