فيما مضى من زمانٍ عشنا فيه إمكانية إستيعاب وجود الخير والشر في حياتنا من باب (نسبية الأشياء في الدنيا) ، ورغم مقتي للحديث عن الماضي من منظور شخصي ، لما شاب ذلك الموضوع في إنطباعاتي الخاصة إيحائه بذلك الإنحياز المتعصب إلى أزمنة وحقب ليس فيها ما يدعو الأجيال القادمة إلى الإلتفات أوالإنبهار ، لأننا نحن الذين عايشناها وحدنا نرى فيها مُطلق ومُجمل المثالية والجمال والجدوى ، ذلك لمجرد (إنحيازنا) الفطري لزمانٍ حوى زكرياتنا الشخصية وبيآتنا الخاصة بما فيها من إيجابيات وسلبيات ، وبما إحتوت من خيرٍ وشر ، غير صادق الذي يقول أن زمانه الذي مضى أجمل وأفضل من زمانه هذا بالرغم أن ما مضى كان عهداً ينقصه الكثير من أوجه التطور التقني والعلمي بالقدر الذي يجعل الإنحياز إليه نوعاً من التحيُّز الفطري تجاه عواطف الإنتماء ومجرد التشبث بمآلات يصنعها (الحنين) و(الوفاء) إلى أشخاص وأحداث لا تبدو بالنظرة الواقعية والمجردة من العواطف أنها الأفضل ولا المُثلى ، كثيراً من المنتمين إلى أجيال سابقة يتباكون على أيام مذاكرتهم دروسهم بلمبة الجاز والفانوس ، حين كانت الكهرباء حُلماً مستحيلاً في بعض قرى وبوادي السودان النائية ، ثم أن بعضاً من هؤلاء يتباكون أيضاً على عهد الخطابات البريدية والبرقيات السلكية والتي كانت في زمان مضى المِعبر الوحيد لرأب حاجات التواصل الإجتماعي والإداري بين ربوع السودان ، وهم في قرارة أنفسهم وفي واقع ممارستهم لحياتهم اليومية الآن أكثر الناس إستعمالاً وإستفادةً من وسائط التواصل الإلكتروني التي نافست وسائل تواصل الماضي بما إختصر الأيام والشهور إلى دقائق وثواني ، إذن هو مجرد الحنين إلى زكرياتٍ شخصية وإنتماءاتٍ عاطفية هي التي تدفعنا إلى طلب الأمان والرضا الذي بات بعيد المنال في حكاية حبنا وتحيُّزنا لزماننا الذي مضى ولو شابته الشوائب ، أما في أمر ما أصاب بلادنا من إنتكاسات على مستويات عُدة فالموضوع مُختلف ، فعلى ما يبدو أن الواقع يؤكد فعلياً أن الماضي (كان أحلى) بكل ما يمكن إعتماده من مقاييس ، فعلى مستوى الممارسة السياسية تجدنا إنحدرنا للأسفل عبر غياب أدبيات وأخلاقيات العمل السياسي وذلك عبر وصفها الآن وكأنها وجه آخر للمراوغة والكذب والخيانة وإتباع مبدأ الغاية تبرِّر الوسيلة ، فضلاً عن غياب قداسة وهيبة من ينتمون إليها كقطاع ، ويتفوَّق الماضي أيضاً في ما سلف من تجاربنا السياسية التي أمّها الشعب السوداني بتفوُّق وإقتدار ونبوغ وسبق لشعوب إقليمه الدولي عبر تحقيقه للحكم الديموقراطي الرشيد بمعاييره المُثلى ثم إنحدرنا وإنتكسنا وها نحن الآن نكابد ويلات حكم الإنقاذ الشمولي بكل تداعياته السالبة بدءاً بإنفصال الجنوب وإنتهاءاً بإرهاصات الجوع والعجز والفقر الذي ضرب بأطنابه كل طبقات المجتمع بإستثناء المنتمين إلى حزب السلطة وما جاورهم من نفعيين ، وزماننا الذي مضى يتفوَّق أيضاً بنجاحه في الإبقاء على مستوى متواتر للناتج القومي الإجمالي والكثير من الثوابت التنموية التي لم تكن تتأثَّر بأية مؤثرات لقوة بنيتها التحتية ونزاهة إداراتها وذلك عبر مؤسسات راسخة في إرثها وتاريخها الإنتاجي مثل سكك حديد السودان وسودانير والنقل النهري ومشروع الجزيرة والخطوط البحرية وشركتي الأقطان والصمغ العربي ، كما أن زماننا الذي مضى قد تفوَّق بقدرته على الوفاء والإلتزام بسيادة القانون والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات الروتينية في القطاعين العدلي والإداري عبر إستقلال القضاء ونزاهة الخدمة المدنية ، نعم إن أردنا الإستبصار لمستقبل مشرق لأجيال قادمة وجب علينا أن ننظر إلى جماليات وإشراقات الماضي التي إنفض سامرها.
نقلا عن صحيفة الجريدة