علينا أن نُقر بأن ثلاثون عاماً من الحكم الشمولي من شأنها أن تجعل الكثير من أعمال وقرارات وخطوات الحكومة الإنتقالية في إحتياج مستمر إلى الإعتماد في أحيانٍ كثيرة إلى نظرية (التجريب) والتي قد تصيب أحياناً وقد تخيب ، والتجريب هو مصدر من مصادر المعرفة والإبداع وعن طريقهُ تم الوصول إلى كثيرٍ من النتائج (المُثلى) في شتى المجالات ، ولكن ما يثير الإنتباه في هذا المضمار أن جمهور الشعب السوداني يبدو أنه أيضاً قد تأثَّر نفسياً (بأدبيات) الحكم الشمولي وصفاته البغيضة فأصبح يحتاج أيضاً إلى وقتٍ و(تجريب) حتى يتمكَّن من التوافق والتعايُش مع بعض الأفكار والإتجاهات التي يفرضها المبدأ الديموقراطي وضرورات المصلحة العامة (كالحيادية) والركون إلى معقولية الأفكار في هذا الفترة الحسَّاسة من تاريخ البلاد ، وذلك طبعاً بقدرٍ متفاوت ونسبي ولكن في نهاية الأمر من الواضح أن عدد غير قليل من جمهور الشعب السوداني (يُصِرُ) على مقارنة الماضي البغيض بالحاضر الذي لا يخلو من إشراقات وأن بدت خافتة ، وبالرغم من أن وجه المقارنة غير منطقي وينقصهُ إتساق الصفات وأوجُه الشبه التي هي في الواقع معدومة إلا ان (المُعتاد) يصعب تحييدهُ من الذاكرة.
على سبيل المثال لا يزال الناس يتخوَّفون من بروز الإتجاه الفكري والسياسي لشاغلي المناصب الجُدد ، وظل البعض يُحذِّر إلى حد الإستغاثة من مغبة تعيين فلان الفلاني لأنه شيوعي أو بعثي أو حتى إسلامي أو جمهوري ، هؤلاء ما زالوا متأثرين بما أفضاه منهج (التمكين السياسي) داخل مفاصل الدولة وهيكل خدمتها المدنية ، هذا المنهج الذي إبتدعه الإسلامويين إبان حكم الإنقاذ البائد ، والذي كان أحد المستجدات الخطرة والمُهلكة في فقه الإختلاف السياسي ، فمنذ إستقلال السودان وما تبعه من صراعات سياسية بما في ذلك الإنقلابات العسكرية لم يسبق لنظام سياسي في السودان غير حكومة الإنقاذ أن أقحمت الوظيفة العامة والمنصب الرسمي في أوجُه الصراع السياسي ، على المذعورين من تعيين أصحاب التوجهات والسياسية والإنتماءات الفكرية الصارخة أو الخفية في المناصب العامة أن يعلموا أن أحد أهداف ثورة ديسمبر المجيدة هو إعادة (منهج النزاهة المهنية) ، من منطلق أن يحمل الموظف أو صاحب المنصب ما يحمل من توجهات وأفكار وإنتماءات في أي مكانٍ وزمان (ماعدا) حال وجودِه في ديوان وظيفته أو منصبه العام ، النظام الديموقراطي لا يستهدف تعيين المستقلين وغير المنتمين سياسياً في الوظائف العامة ، ولكنه يستهدف إعادة (ترسيخ) مفهوم حيادية و(قومية) المنصب العام وفصلهُ بالقيَّم والأخلاقيات والقوانين واللوائح عن الإنتماءات السياسية والفكرية لمن يشغلونهُ ، هذا ما كان الحال عليه قبل حكم الإنقاذ البغيض ، فالخدمة المدنية والمكاتب الحكومية والوظائف العامة كان يشغلها أشخاص ينتمون إلى شتى الإتجاهت السياسية والفكرية ، لكن ورغم ذلك كانت ساحات الخدمة العامة منزَّهة ومحايدة ولا يلتفت شاغلوها إلا إلى المصلحة العامة الُمجرَّدة ، لا تحرموا البلاد والعباد من قامات مهنية مشهود لها بالكفاءة و التفرُّد لمجرَّد إنتمائها السياسي أو الفكري أو إختلافكم معها ، ولكل حادثٍ حديث ولكل مقامٍ مقال .