اتجهنا شمالاً بمحاذا المحيط الهادئ ما ينوف على ساعتين وسط مروج ومزارع مخضرة على مدى الأفق متجاوزين قرى ومدنا جميلة ومصانع ترسل أدخنتها عاليا. وطاف بذهني أن هذه الطبيعة السخية لا ريب أسهمت في نبوغ كتاب عظام مثل الروائي همنغواي نائل جائزة نوبل والقاص الساخر مارك توين الذي حبك بعض مغامرات أبطال رواياته في تخوم نهر المسيسبي أعظم أنهار أمريكا الذي يتلاحم معه ميسوري. وللعجب فإن ميسوري في النوبية مرادف للدميرة والفيضان.
معلوم أن النيل أطول أنهار العالم لكن الأمازون أغزرها وأعلاها تدفقا’ يليه نهر الكنغو الذي تسعى مصر لتحويل جزء منه وضخه في النيل الأبيض عبر خط تقسيم المياه المشترك فالكنغو بلاد مطيرة لا تحتاج لمعظمه الذي يصب هدرا في الأطلسي.
تناولنا فطورنا في محطة نابضة يرفرف عليها العلمان الأمريكي والكندي قربها خدمات شتى وخلفها على مدى البصر خضرة لانهائية خلاف ما عهدنا في شريط النيل ذكرتني إبداع شاعرنا د. الجيلي عبد الرحمن وهو في معية والدته في قطار الصعيد صغيرا في الطريق لأبيه في القاهرة:
.. ورحت أحلق بين الحقول
حقول! وشيء يثير الفكر
أما نهاية لهذي الزروع
عجبت .. عجيب أيجري الشجر؟
وهو مؤلف قصيدة ” أحن إليك يا عبري ” وعمل صحافيا وأستاذا جامعيا.
ها نحن على بعد أمتار من نقطة الحدود حيث يتفرع طريقان أحدهما للشاحنات والمركبات التجارية والآخر
لسيارات الركاب. ويستقبل جوالي عبارة:
مرحبا بك في كندا
سيارتنا جاء دورها فتقف ملاصقة لمكتب الجوازات فيمد بسام الذي أجالسه أمام وخلفنا والدته بطاقات هوياتنا فيمررها المسؤول على جهاز ثم يلقي نظرة عجلى على صندوق السيارة الخلفي ويعود منحنيا يلقي التحية مستطلعا الداخل بحدسه الأمني بسرعة ويسلمنا البطاقات مرحبا فنندفع قدما في أراضي كندا بعد توقف لم يدم غير ٥ دقائق للعبور.
بسام عاشق كندا التي يزورها كلما واتته سانحة يغير في السيارة عداد المسافات من الأميال إلى الكيلومترات طبقا للنظام الكندي.
ونحن نجتاز مزارع قمح تترامى أكوام حصاده بحاصدات لا تخطئها العين رحت سارحا أستجمع بعض ما أذكر من كتاب ” كندا حلم المهاجرين ” الذي طالعته بشغف قبل سنين للصحافي المصري القدير مفيد فوزي.
على اليمين مسجدان بقبتين ذهبيتين يتبعان لكنديين مسلمين من أصول هندية وباكستانية بينهما مسافة محدودة.
بعد مسير نحو ساعة وسط الضواحي الجميلة ندلف إلى مدينة فانكوفر كبرى مدن كندا على الساحل الغربي. ها نحن نجتاز ناطحات سحاب سامقة ونتوقف في أحد الأدوار السفلية لعمارة شاهقة فنودع سيارتنا بين سيارات متراصة في طابقين قدرتها بألف.
خرجنا راجلين للشارع العريض ليبتلعنا زحام المحتفلين المتدفقة أعدادهم باليوم الوطني أي الاستقلال عن بريطانيا .. الشبان يزينون قمصانهم في فخار بالعلم فيما طبعت شابات يانعات العلم على خدودهن الباسمة.
إزاء ذلك ترحمت على شاعرنا الفذ إسماعيل حسن ومن بدائعه:
في درب البنات يا يمه
أنا اتشتته واتبهدلته واتغربته دابي
وأنا اتوكرته في بلدن
بناتها بلا المهور الجامحة
فوق الريح تشابي
وجوهن يمه
كان شفتي القمر لجلج
يضاحك في الروابي
والعلم تتوسطه ورقة شجرة كندية شائعة شبيهة بورق النيم.
نشق طريقنا وسط الحشود على كورنيش الساحل. يمنانا ٥ بواخر سياحية راسية فخيمة آتية من أوروبا بطوابق متعددة أقربها نرويجية اسكندنافية.
نستدير مع ساحل البحر الممتد فسيحا عريضا من المحيط المترامي على البعد فنقف عند جوقة موسيقية تعزف ألحان ديسكو ساخنة يرقص على إيقاعها الجيرك شباب غض من طائفة السيخ في خفة ورشاقة اكروباتية تميزهم عمائمهم الملونة فوق الزي الإفرنجي فرحة بأعياد بلادهم الرحيبة.
ألحظ أننا نقف أمام صالة كبيرة سقفها منجل تتناثر عليه كراسي كثيرة فهم بذا يوظفون الموضعين .. القاعدي والعلوي.
بعد ما سرنا قليلا وجدنا جمعا يتحلق حول حاو قادم من نيوزيلندا يستمتع بألعابه البهلوانية المثيرة.
نتابع السير .. هنا عازفون على مختلف الآلات الموسيقية يقدمون كل على حدة مقطوعاتهم الشائقة فيصفق من حولهم عند الفراغ من كل فاصل ومن أراد التشجيع يجد في جراب الآلة الموسيقية قربهم مجالا للنقود.
في الخلف حدائق يفترشها النجيل الناعم مفتوحة يرتاح فيها بعض المتعبين والأسر ويتناثر حولهم أطفالهم يلهون في حبور.
استرعي انتباهي أن سمار اللون برفقتهم شقراوات والعكس بمتوالية لافتة وكل يسعى لما ينقصه فعلقت:
باستمرار هذا التمازج ستعود البشرية لما كانت عليه أول عهدها أو عند سلالة أبي البشرية الثاني نوح كيانا واحدا دون تمييز عنصري.
في منحنى يطل على ساحل ممتد يموج بالخلق على مد البصر جلسنا نتابع حركة المحتفلين داخل المياه عبر اليخوت والمراكب الشراعية المميكنة بينهم شباب عراقيون ينطلقون على قارب بخاري فائق السرعة يرفعون علمهم ويتغنون ببلاد الرافدين.
لكن ها هنا قمة التشويق قربنا ..
أمامنا ممر خشبي ممتد داخل المياه فوقه طائرات طوافة برمائية سعة ١٠ ركاب. كلما امتلأت إحداها بحملة تذاكر الطيران من مكتب جنبنا تتراجع متقهقرة فتنزل من الممر للمياه فتطفح فيها فيما يرتفع هدير المحركات وبعد هرولة على المياه باعثة أمواجا مقهقهة متلاحقة تحلق عاليا في جولة على أنحاء المدينة .. حيث تقلع طائرة بمعدل كل ٥ دقائق. أما العائدة فتهبط على الماء وتخوضه حتى تتسلق سقالة الممر الخشبي وتعتليه لإنزال ركابها. ويتواصل الحراك الماتع فيستشيرنا بسام في أن نركبها فأقول ضاحكا:
بر السلامة للحول قريب!
وعلى قول سيدنا عيسى ” اللهم لا تدخلنا في تجربة “.
عندما عدنا مستمتعين بشلالات النوافير الصادحة والجماهير المستبشرة وخرجنا بسيارتنا كان المساء يحاول عبثا نشر غلالته فيما تهزمها بهرجة الأضواء.
نتوقف وسط المدينة لتناول وجبة في مطعم عربي فيتعذر ذلك لازدحام المواقف فجلسنا في فرع سلسلة ماكدونالدز التي بصدد فتح فرع لها بالخرطوم هذه الأيام نتعشى مبكرين فيما يبث التلفزيون في نشرته مقاطع من خطاب الرئيس ترودو لأمته بالمناسبة العظيمة’ وهو ابن الرئيس السابق واختير عبر الانتخابات.
في ضاحية على مسار نصف ساعة من قلب المدينة رحنا ننقل حقائبنا الصغيرة للشقة المفروشة التي استأجرناها عبر النت قبيل ساعات فيما تتزاحم السماء من فوقنا بألألعاب النارية الملونة التي تصطرع في زخات متعانقة ناشرة الضياء والبهاء.