الحكومة الإنتقالية ومَنْ حولها من قيادات قوى الحرية والتغيير أبانو وأفصحوا عن برنامجهم الإسعافي المستعجل والذي يجب أن يسبق مرحلة بناء السودان الجديد ، وفي هذا البرنامج من الرؤى ما لا يستطيع أحد أن يُغالط في أولوياته التي تبدأ بالسلام وتنتهي بتفكيك الدولة الموازية ووضع الإقتصاد القومي في مساراته الصحيحة ، وللحقيقة فإن كل تلك الأولويات يمكن أن يستوعبها الجميع ولو كان هذا الإستيعاب بنسبٍ متفاوتة حسب التكوين المعرفي والثقافي لكل فرد أو فئة إجتماعية ، لكن على العموم فإن (النُخب) هي التي تُولي الإهتمام الأكبر بتلك الأولويات وهي الأوسع فهماً لأهميتها في تدشين مرحلة البناء والتنمية المستدامة التي ينشدها الجميع ، أما الأغلبية من عامة الناس فإن مفهومهم أو بالإحرى إحساسهم المباشر تجاه الأولويات لا يمكن أن يسبق أو ينافس إهتمامهم الإستراتيجي بالـ (الأسبقيات) المتمثِّلة بحسب ما يُمليه الواقع السوداني في متطلبات الحياة اليومية والمقدرة على مواجهة صعوباتها أو بالأحرى صراعاتها المتتالية والمُتفاقمة ، فهم ما زالوا يتوقَّعون أن تكون (أسبقيات) ما يمكن أن يُسفر عنه إنتصار ثورة ديسمبر المجيدة هو توفُر ويُسر الحصول على وسائل المواصلات ، وإنخفاض في أسعار السلع الإستهلاكية وإنتعاش ولو ضئيل في سعر العُملة المحلية وتحسُّن ولو طفيف في تلقي الخدمات الصحية .. ألخ.
وقد تحدَّث في أكثر من منبر العديد من الحادبين على المصلحة العامة وإستمرار هذه الثورة في مواصلة مسيرتها نحو تحقيق أهدافها ، عن ضرورة الإنتباه والإلتفات إلى وضع خطة لمجابهة (المُهدِّدات) التي تواجه الثورة ومسيرتها وبرامج تحقيقها لأهدافها وشعاراتها المُستحقة ، وقد تم تناول الكثير من تلك المُهدِّدات التي شملت محاولات الدولة العميقة أو الموازية لإجهاض الثورة عن طريق التربُص للأخطاء والزلات البسيطة وأحياناً إختلاقها لدفع العامة لإتخاذ مواقف مناوئة للثورة وحكومتها ورموزها ، ومن المُهدِّدات أيضاً إستمرار الحُرية والقُدرة على المناورة لكثير من المؤسسات والأفراد والتنظيمات التابعة للنظام البائد ومحاولتها عبر القُدرة الإقتصادية والإختصاصات المهنية صناعة العراقيل وإفشال ما يتم إنجازه من مهام إنتقالية ، ولكن ما لا أظن أن قادة الحكم الإنتقالي قد إلتفتوا إليه (كمُهدِّد) إستراتيجي خطير هو إمكانية إنتشار وإستشراء حالة (الإحباط) الجماهيري تجاه ما كانوا يتوقَّعونه من إنعكاسات آنيه وإيجابية على حياتهم اليوم بعض إنتصار الثورة ، وجب على القيادات السياسية التي تتحكَّم في مقاليد الأمور أن يقدِّموا (الأسبقيات) على (الأولويات) ، ولو كان هذا المنحى خطأاً من حيث المنظور العلمي والتخطيطي ، فالتضحية (بجزءٍ قليل) من ما يُبذل الآن من أجل الأولويات لصالح الأسبقيات فيه درءٌ ومعالجة أكيدة لوباء الإحباط العام الذي بدأ يسود الآن في أوساط العامة ، وما من متفائل سوى النُخبة الذين يستطيعون أن ينفذوا برؤاهم المعرفية نحو المستقبل ، إلتفتوا حالاً إلى تحسين معاش الناس وظروفهم الحياتية ولو بالقدر اليسير والأدوات غير الصحيحة علمياً ومنهجياً تحت قاعدة الإضطرار ولا بُد مما ليس منهُ بُد.