قاومت المعارضة، مدنية كانت أم عسكرية، نظام الإنقاذ في المدن والاحراش لثلاثين عاماً وسالت دماء وذهب شهداء دون نصر حاسم لكن جاءت الضربة القاصية التي حسمت كل شيء وخلصت البلاد من استعمار الإنقاذ للبلاد من شباب الثورة شباب “الكابوريا والسستم” وفيها لم يطلقوا رصاصة واحدة بل كانت شعاراتهم الداوية “سلمية سلمية”.. فابدعوا في أساليب المقاومة وبصدور عارية تحمل في باطنها العزيمة والتضحية والايمان بالقضية فاستبسلوا… نعم امتلأت بهم السجون واستمتع وتفنن جلادوا النظام بتعذيبهم بل روت دمائهم الذكية الأرض وسالت حتى تحولت مياه النيل قانية وتدففت دموع الأمهات سخينة دون انقطاع فهل بعد ذلك تضحية أو فداء.. نعم لولا هؤلاء الشباب الذين ضحوا ليتحرر الوطن ربما سلمها زبانية الإنقاذ الى عيسى… الم يقل ذلك نافعهم !! لكنهم نسوا سنن الحياة.
ذهب
عنفوان الثورة باوجاعه وآلامه وتضحياته وبقيت ذكرى الثورة وأحاديث البطولات التي
نريدها أن تترجم بصدق في برامج إعادة تأسيس دولة الوطن وكيفية بنائها، تقديراً
ووفاءً لدماء الشهداء. نعم إن اصلاح دمار وفساد ممنهج استمر لثلاثة عقود ليس بالأمر السهل، لكن مارثون
السباق الطويل يبدأ بخطوة. وفي اعتقادي إن الفترة
الانتقالية قد رسمت خطها في ثلاث مراحل لهيكلة
الدولة ( مجلس السيادة / مجلس الوزراء/ ثم المجلس التشريعي). فبدأت أول مراحلها
باختيار مجلس السيادة ورغم ما دار حوله من لغط وملاحظات لكن عملية الاختيار
لمكوناته المدنية في رأي كانت خطوة موفقة نحو التغيير الحقيقي الذي نريد.
عندما
نذكر مجلس السيادة يتبادر الى الذهن مجموعة من الشيوخ الوقورين المحملين بارث
الإدارة الاهلية والمسنودين قبلياً واجتماعياً وسياسياً وربما بسبقهم في التعليم.
لكن هذه المرة جاء فقه شباب ثورة ديسمبر فهز هذا المفهوم بقوة فاخرجنا من الصندوق
الى فضاء مفتوح. فلنترك المكون العسكري الذي فرضته ظروف المرحلة ونركز على المكون
المدني، وهنا لابد من الإشارة الى إيجابية تنوعه في الفكر والعمر والتصالح بين
الريف والمدينة وفي ذلك سابتعد قليلاً عن ثنائية ما يسمى بالهامش والمركز التي استُهلكت لفظاً وإن بقي المعنى هو ذات المعنى واستعيض
عنها بالمدينة والريف.
نعم جاء في المجلس السيادي التنوع الفكري
والمناطقي. فأُمنا عائشة موسى وإن أختلفنا معها في التوجه الفكري لكنها بلا شك
امتداداً لمفاهيم تنبهت مبكراً لمشكلة السودان وشخصتها بأنها تكمن في الهوية.
اليست الأستاذة عائشه موسى امتداد لمن نادى “بالعودة الى سنار”. بل كانت
هناك أيضاً مدرسة الغابة و الصحراء وكلا المدرستين ورغم اختلاف مشاربهما قد أسست موقفها
في محاولة للتأصيل بحل مسأله الهوية الضائعة. وقناعتي أننا بحاجة للثقافة والتاريخ
والجغرافيا لفهم ذاتنا بشكل صحيح وأن غيابها يخرج لنا طبخة بمعادلة مختلة وخوفي
هنا أن من يتصدرون المشهد اليوم، ومع مجاهداتهم العظيمة وصدقهم، إلا أن بعضهم قد لا
يعرف ان مدينة القولد تقع في الشمالية أم البطانة. وكذلك كادوقلي أهي في كردفان أم
دارفور، ومع ذلك يودون أن يقرروا في مصير الوطن. وهذا يعني غياب الجغرافيا ويتبعه
أيضا غياب التاريخ والثقافة. إنه لخطر كبير أن من يخاطب قضايا الوطن من على خشبة
المسرح ينظر فقط بعيون أهل العاصمة والمدينة ولا يُشرك
معه من ينظر بعيون أهل الريف.
لهذا أن
يكون في مجلس السيادة مثل الدكتور/ صديق تاور كافي والأستاذ /محمد حسن التعايشي القادمين
من جيوب الريف البعيدة التي تدور فيها الحروب ورغم التباينات الفكريه سوف يعطي
المجلس بعدا جديداً في النظر والتقدير عند تقييم وتحديد أساليب معالحة مشكلات
الوطن لدى المجلس. وتلك ميزة تفضيله أن يكون مجلس السيادة بهذا التنوع في الفكر
والعمر والجغرافيا، خاصة إذا اضفنا الى ذلك عامل المعتقد الذي تمدد ليشرك الاقباط
لكن لماذا ليس مسيحي جبال النوبه؟ وفي ذلك سؤال. فالاقباط مكون مهم ونكن له كل
نقديرلكن ما زالوا منفصلين في ابراجهم الخاصة.
ثم ماذا
عن مجلس الوزراء .. صحيح أن اختيار حمدوك رئيساً للوزاء قد استوفي معادلة المدينة
والريف مضافاً اليها ثقافة العولمة التي اكتسبها الرجل في عمله بمنظمات دولية وجاء
مكملاً له وزير المالية البدوي بما يتمتع به ايضاً من قدرات فوق العادة تمددت في
مؤسسات دولية كبرى استفاد منه آخرين لكن الوطن أولى.
إن اختيار
وتشكيلة بقية الوزراء في رأي لم تفعّل مبدأ التمييز الايجابي المطلوب للريف وجاءت
بتقدير أن حكومة التكنوقراط ستكون محايدة عند وضع أساس دولة المواطنة في التنفيذ.
لكن زاد من الخلل عدم مشاركة القوى السياسية في الحكومة. فأوجد ذلك فراغاً كبيراً
في عملية الخبرة السياسية التراكمية المكتسبة لدى الاحزاب .. فجاءت تشكيلة الوزراء
بشكل أو آخر امتداداً لافرازات ومخرجات نخبة المركز وبعيون أهل المدينة.
إن المحاصصة تقليد مقزز لا يقبله منهج العملية الديمقراطية
ولكن لتحقيق التغيير المستهدف لابد من التمييز الإيجابي للقادمين من الريف حتى
يتسنى لهم اقتحام قلاع الخدمة المدنية والعسكرية المحصنة والجلوس كتفاً بكتف مع
نخب المركز المتمكنة في مختلف مراكز اتخاذ القرار واسست دولتها العميقة. فإن لم نأخذ بيد الريف عن طريق التميز الإيجابي
ستظل الفجوة كبيرة بينه وبين نخبة المركز التي مددت جزورها باسبقية التعليم وغيره
من القدرات المكتسبة وبقصد أو بدون قصد. قل لي بالله كيف ينافس القادم من الإقاليم
بالمعايير العادية في الدخول الى وزارة
الخارجية مثلاً مع آخر من ورثة نخبة المركز كان جده وزيراً أو سفيراً رافقه
متنقلاً حول بلدان وعواصم العالم فتعلم اللغات وتعايش مع ثقافات أخرى في جامعات
أجنبية بينما ذلك القادم من الريف قد درس في جامعاته المحلية وتخرج متفوقاً في
اكاديمياته لكنه ما زال بحاجة لكورسات لمحو اميتة الحضارية !!
حكى لي
احد الدبلوماسيين العاملين في وزارة الخارجية عن انطباع مسئول دبلوماسي أجنبي كبير
كان يتعامل مع الخارجية قائلاً أني أجد إختلافاً كبيراً قي سحنات من يعملون
بالخارجية عن ذلك التنوع الذي الاحظه في سحنات الشارع العام بالسودان. مما يعني أن
هناك اختلالاً في الاختيار لهذه الوزارة. وخلص الى أنها مشكلة يجب معالجتها. ولربما
كانت هذه واحدة من مشاكل السودان في الخدمة المدينة التي لا تعكس التنوع السكاني
في تولي الوظائف القيادية. إن نهج التمييز الإيجابي لتصحيح إختلال الخدمة المدنية عملت
به حكومة الديمقراطية الثالثة قبل انقلاب الإنقاذ وذلك باختيار نسبة عالية من
أبناء الريف لتولي الوزارات تطبيقاً لهذا المبدأ. فأشاد بذلك من كتبوا الكتاب
الأسود وهم المنافس اللدود بأنها الحكومة الوحيدة التي انصفت الريف ومع ذلك تهكم آخرون
تشكيلة وزراء تلك الحكومة متسائلين هل هذا مجلس وزراء أم قائمة من السكن العشوائي
!! نعم إن التغيير تجابهه مقاومة كبيرة لكن لابد من صنعاء وإن طال السفر.
قد يتفق
معي الكثيرين في أن التغيير الذي نريد يجب أن يهز بشجاعة وقوة كثير من المفاهيم
والمسلمات السابقة التي اوجدت إختلالاً في بنية الخدمة المدنية والعسكرية وهياكل
الدولة وعززت حالة اللا عدل في توريع السلطة والثروة. لكن مع ذلك نقول ايضاً أن التغيير
الذي نريد نود أن يتم بهدوء بعيداً عن نهج التصجيح المبني على المغالبة و الانتصار
على حساب مهزوم، مع التأكيد أن التغيير الناجح يأتي مدروساً وتدريجياً وموضوعياً
وعادلاً وأكرر أن “العافية درجات”.