لو أغلقنا كل سفاراتنا في الخارج عند أول يوم لمباشرة الحكومة الجديدة مهامها، وأبقينا على مكتب صغير لخدمة الأوراق الثبوتية، لما خسر السودان شيئا. فنحن ندرك طوال فترة الثلاثين عاما الماضية أن العمل “الدبلوماسي الرسالي” الذي رسم خطوطه زعيم الجبهة الإسلامية القومية لم يجن للبلاد دورا مهما، أو مؤثرا، لا على الصعيد الإقليمي، أو القاري، أو الدولي. السفارات، على الجهة الأخرى، كانت أقرب لخدمة مشروع الطغمة الحاكمة أكثر من السودان. بل كانت عبئا ثقيلا على رعاياها في الخارج، تتجسس عليهم، وتثير الفتن، والقلاقل وسط الجاليات، وتسهم في تضييق حيوات الهاربين من جور النظام، وتهمل الاهتمام بالعسر الذين يواجهه المغتربون، والمهاجرون، وتمتص مدخراتهم بخطط سكنية كاذبة، وتغلي سعر تجديد الجوازات، وتعمل على ترحيل معارضين، وتسليمهم للأمن. أما على مستوى الفساد فدونكم تقارير كثيرة عن السمسرة لاستجلاب شركات رأسمالية طفيلية للاستثمار في البلاد، وتقديم صورة شائهة للدبلوماسي السوداني عبر ممارسات قبيحة، والتصرف في المباني، سواء في لندن، أو مصر، مثالاً. باختصار، شهدنا بعثات دبلوماسية مجازية لكادر غير مؤهل بالوفاء للبلاد في غالبه لشغل هذه المهمة. وحتى الذين كانوا يملكون تأهيلاً – وهم قلة على كل حال – لم يستطيعوا التأثير، شأنهم شأن الكثير من المهنيين الوطنيين المغلوب على أمرهم في كثير من الوزارات. بل إن طبيعة مرحلة الإنقاذ قصدت أصلا تهميش المهنيين الذين وجدتهم في الخدمة إذا أبقت على وظائفهم، بينما كانت بقية المهنيين الذين تقدموا للعمل في هذه الوزارات، والخارجية من بينها، لم يتسن لهم الإبداع في العمل ما دام النظام كله كان خربا من قمة هرمه حتى قاعدته.
-٢-
نحن ندرك بالطبع أن هناك دبلوماسيين مؤهلين حين أحكمت الحركة الإسلامية قبضتها على الدولة. فمنهم من قدم استقالته وهم قلة، وبعضهم فضل أداء الوظيفة بصرف النظر عن الدور الإيجابي المتخيل، أو السلبي الذي تلعبه وزارة الخارجية في دعم عمل الوزارات الداخلية التي تشكل سلطة النظام في البلاد. بيد أن الذين أتت بهم تعيينات النظام السابق السياسية من الدبلوماسيين الذين بدأوا من أدنى السلم الوظيفي، ووصلوا الآن إلى درجة السفير، فلا نعتقد أن هؤلاء يمكن أن يسهموا في دعم النظام الجديد، مهما أحسنا الظن فيهم. ومهما انتظر هذا الكادر المؤدلج مصيره – إما الاستمرار، أو الإقالة، كما حدث لبعض الدبلوماسيين – فإن الأمل هو أن تجد الوزيرة الجديدة مجالا للتأمل جيدا لمعرفة إلى مدى يمكن أن يسهم هذا الدبلوماسي المؤدلج في ترقية أداء العمل الذي يساعد في تثبيت دعائم النظام الجديد.
إن الخارجية السودانية عموما مثلما هو حال بقية الوزارات الداخلية لعبت دورا في دعم سياسات الدولة المركزية، سواء في الأنظمة الاستبدادية، أو الأنظمة الديموقراطية. وفي هذا الإطار يمكن القول إن دبلوماسيتنا حتى في عقود سلطة السابع عشر من نوفمبر ١٩٥٨ والخامس والعشرين من مايو ١٩٦٩ كانت تضم الكفاءات التي استفادت جيدا من نظامنا التعليمي المتقدم آنذاك، ومن ثم عركتها تجربة الاستقرار النسبي في الخدمة المدنية، فضلا عن عدم تعقد علاقتنا بالإقليمي والدولي مثلما هو حادث الآن. أما دبلوماسية نظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩ فإنها منذ بداية عهد النظام اصطدمت بالموقف الأيديولوجي الذي اتخذته الحركة الإسلامية عند التعامل مع أنظمة العالم بشكل عام. وقد ساهمت التجربة العملية لتطبيق هذا الموقف الأيديولوجي تجاه علاقاتنا الخارجية في خسران المحيط العربي أثناء فترة حرب الخليج الأولى. وعندما استضافت الخرطوم المؤتمر الإسلامي العربي، وبعض الجماعات الإسلاموية المتطرفة، وضلوع النظام في عمليات إرهابية، تعطلت أي إمكانية لإسهام العمل الدبلوماسي في أداء دوره المتمثل في جوانب سياسية، ودبلوماسية، وتجارية، وثقافية. ومع ذلك استمر السفراء في تمثيل البلاد بلا مردود إيجابي منظور، بينما لم يكن باستطاعتهم أن يعكسوا الصورة المشرقة للبلاد، خصوصا في ظل المقاطعة – أو عزلة البلاد – الدولية بعد صدور العديد من القرارات ضد النظام سواء من المنظمة الأممية، وتوابعها، وكذلك الدول الغربية.
-٣-
الحقيقة أن الدبلوماسيين كانوا عاجزين عن التأثير باستشاراتهم، وتوصياتهم، لقادة النظام لاتخاذ مواقف لصالح السودان تعبر عن قناعاتهم المهنية، إذ إن رئاسة البلاد كانت أصلا تمتلك كامل السلطات التي تفرضها على المؤسسات التشريعية، والقضائية، والتنفيذية. والحال هكذا فإن الخارجية لم تكن معنية باقتراح الموقف الدبلوماسي الذي ينبغي أن يتخذه النظام، فالعكس هو صحيح تماما. فوزير الخارجية، وسفراؤه، ظلوا بلا وزن لخبراتهم الدبلوماسية في تحديد المسار الدبلوماسي للبلاد، وأنه مع طاقمه كانوا ينفذون ضمنيا توجيهات الترابي والبشير في الانغماس في اللعب بتناقضات المحاور الإقليمية، والدولية، والاثنان لا يحفلان بأي رأي أو مشورة دبلوماسية إلا إذا كانت تخدم السلطة القائمة وليس البلاد إجمالا. ولكل هذا كان دبلوماسيونا يصرفون مرتباتهم فقط فيما يجبى الإداريون في السفارات الضرائب الباهظة بتعامل متسلط، وفظ على المغتربين.
الآن ينتظر الرأي العام أن تطلعه وزيرة الخارجية الأستاذة أسماء محمد عبدالله على خطتها تجاه التعامل مع هذا الجهاز المترهل، والذي كان يغذي أولاد وبنات الإخوان المسلمين في الأساس. وكذلك نتطلع لمعرفة حدود خيالها في تثوير العمل الدبلوماسي السوداني حتى يكون معينا لسياسة السودان، واقتصاده، وتجارته، وأكاديميته، وجيشه، وسمعته، وتعليمه، وثقافته، وفوق كل هذا مؤسساته الصحية، والتعليمية، والزراعية. السؤال المتروك للقارئ الإجابة عليه: هل انعكس أداء سفراء الخارجية في الثلاثين عاما الماضية على تلبية حاجات هذه الساحات السودانية، أو تحسين سمعة البلاد خارجيا، وإعانة مواطنيهم الذين كانوا بحاجة للدعم؟