أكرمني الصديق و الأستاذ الكبير فضيلي جماع بإهداء قيم لروايته ” هذه الضفاف تعرفني ” . وهي ذات الرواية التي أصدرتها دار مسكيلياني التونسية للنشر في ٢٠١٩ وتقع في ٢٧١ صفحة من الورق المتوسط .
و فضيلي جماع في رأيي هو شاعر مجيد اختطفته القوافي عن عوالم السرد التي لا يتوجب أن يترجل فارس مثله عن صهوتها . فهو حكاء ماهر صقلته تجاربه الشعرية العميقة و أعماله الأدبية الأخرى على نحو ” دموع القرية ” و ” المهدي في ضواحي الخرطوم ” .. و أهلته جميعها لإمتلاك الأدوات اللازمة للإيغال في الأعمال الروائية بدربة و معرفة عززتهما لغة طيعة تخطف الأبصار و تستولي على الذائقة منذ أول كلمة إلى أخر حرف من أحرف الرواية ذاتها .
يلجأ فضيلي جماع إلى حيلة موغلة في البراعة هو يفتتح المشهد الأول من الرواية . انها حيلة الإستدعاء من الذاكرة ذات الخلايا المتخمة بهوس التفاصيل . يستدرجنا بطل الرواية ” فارس” بحذاقة فائقة لصفحات مفكرته العتيقة .
فالراوي مسكون بتدوين خواطره منذ سنوات صباه الأولى . تبتدئ فنتازيا السرد بمشهد الراوي و صديقه مجاك بن السلطان فيوت . طفلان غريران في السادسة من عمرهما جمعتهما منطقة تسمى عتمور الفارس التى وصفت بأنها ” منطقة مرتفعة على مقربة من النهر ” . هناك يلتقي عربان المسيرية الرحل ” أهل الرواي” مع عشائر الدينكا المستوطنة هناك وإليهم ينتمي مجاك .
صداقة البراءات الأولى بكل ما فيها من نقاء عززته الفطرة و بنوة الأرض الواحدة ، تتسيد التفاصيل بزخم آسر . جغرافيا المكان نفسها تأخذنا نحو دنيا من الأخيلة حول ماهية “الأركيولوجيا” التي تخلق فيها النص . “دكادك” الدينكا ، أشجار الكوك ، الجميز ، الخروب والهجاليج ..جلبة أسراب الأوز في النهر و شقشقات طائر الغرنوق في المساءات المقمرة .. كل تلك المشاهد التي ولدت فيها صداقة الصبيين ترسم دائرة افتراضية تحاصر خواطر القارئ وتمنحها أقدام لتجول بهما في تلك الأمكنة .
يستدرجنا السرد المنساب نحو قرية رويانة حيث كانت الأشياء على سجيتها لأمد بعيد .. أرض بكر وبلدة طيبة و رب غفور . بيد أن الأقدار لا تنفك دون أن تمد يدها العابثة لتزعزع هدأة البال التي كللت تلك البقعة من الريف الكردفاني الآسر . الدقّم شقيق فارس رمى بحجر ضخم في بركة رويانة الساكنة . لاكت الأفواه قصة عشقه لفطين بينما كان هو يغرق لأخمص قدميه في حكاية حب موغلة في النبل . اجترأ على معاندة أبيه بجسارة حين لم ير فيها ما يجدر بابنه .
و عندما احتدم بينهما الجدل ، ترك الدقم العنيد في أحشاء فطين بذرة باقية و رحل . واحتفظت فطين الوفية بتلك البذرة حتى صارت ثمرة حلوة . هكذا خرجت إيمان الى الدنيا في رويانة بينما كان ابوها الدقم يرسف في أغلال الحركة الشعبية بالجنوب حيث أُسر كوكيل عريف بالقوات المسلحة .
و لفضيلي موهبة سرد لن تفوت على ذائقة قارئ يتنفس الأحداث و هو يقرأ . لا شك أن فضيلي أعمل مواهبه جيدًا و هو ينقلنا بين المشاهد المختلفة بحذاقة عالية . و من ذلك أنه قد أفلح في توظيف قصة الدقم و فطين لتهيئة الأذهان لتقبل فكرة التغيير العاصف الذي بدأت طلائعه تتنزل على تلك القرية . هدير شاحنات الجيش سرعان ما صم آذان الناس هناك .حط الشر المستطير رحاله فقامت الحامية و لم تقم للناس راحة بعدها .
عسكرة الريف و ما يعقبها من عنت وزلزلة لن تغلها مسامرات سماعين الباحش ، ضي النور كجام و ضحية عوجات تحت ضوء الليالي المقمرة . وكان الكاتب قد افتتح كوة من ضياء السرد في موضع آخر بشكل متزامن . هناك في قلب السودان حيث يلتقى النيلان في الخرطوم ، انتقل فارس و مجاك بصداقتهما الباكرة نحو مرحلة وسمها القدر بالنضج و الوفاء . هناك في رحاب الجامعة حيث يشتبك قلب مجاك بفؤاد فتاة ترجع بأصولها نحو الشمال النيلي . سناء الفوراوية بكل ما فيها من وفاء و عناد لم تعد تقو على مقاومة حكايات الحب الأولى بمدها الصاخب .
استدرجنا فضيلي لقصة عشق أسطورية جرت وقائعها في اتجاه معاكس لمد جريان نهر مهترئ من التقاليد و الترهات .
انه ذات النهر الذي اغرق بمده المميت المجتمع المكبل بالعنصرية و بداوة الإنسانية الأولى. وتواترت تلك الأقاصيص مع شغف ” فارس” ب” أمل” وسط تشجيع و احتفاء من أصدقائهم الجامعيين على نحو رحاب و حمدان توتو . و تمضي التفاصيل لتزداد اشتباكاً باقتران حمدان الطبيب الحديث التخرج لاحقاً برحاب .
بيد أن أن حيل فضيلي السردية لا تدع القارئ دون أن تعبئ ذهنه بتكتيكات الحكي الموغلة في التنوع . البراعة تكمن هنا في المقدرة على خلق مراكز سردية مختلفة للرواية و من ثم التنقل بينها برشاقة لا ترهق القارئ بأي قدر من التكلف . هناك في رويانة بدأت التغييرات تؤز القرية بلا رحمة . عبدالوارث السفيه .. ذلك الغريب الذي أطل على رويانة كضيف مزقته الحاجة ، صعد نجمه بأحابيل التزلف التي أجادها بمكر و دهاء عريقين . لم تعد رويانة كما كانت ، بقعة يلفها الهدوء و حنو الأمكنة . مليشيات مراحيل تشتبك مع المتمردين في أطرافها البعيدة.
الدم المسفوك يشخب في غارات متبادلة بين الطرفين عنوانها التشفي و الانتقام. جسر من الموت قام على انقاض جسر عريق من تعايش القبائل و السلام المجتمعي الأزلي .
عبدالوارث السفيه بانتهازيته العريقة يصعد لعرش الثراء الفاحش في زمن الغفلة فيحتل بشاحناته و مخازنه ميدان الدافوري حيث كانت تكمن أعز ذكريات فارس و رفاقه من ابناء ذات الجيل برويانة .جاءت الحامية بشرها الذي اثلج صدر عبدالوارث خوجلي ليصعد بتهافته على أكتافها متسلقاً -كعادته- نحو ذاته الضيقة . قائد الحامية ” أبو نظارات” يوزع الأسلحة على العرب الرحل و كأنها قطع من الحلوى . هكذا تسلق المشهد شبان مغمورون من رويانة مثل ول بلايل و الذي صار من أمراء الحرب الجدد بإمتياز . لم يعد بوسعنا غير أن نردد مع الرواي ” فارس” : نعم لم تعد رويانة كما كانت ! تراجيديا التفاصيل تتراص ببنائها الشاهق حتى لا تدرك الأبصار لها منتهى .
فارس يتذوق ويلات الإعتقال والتعذيب في سجون الأمن بلا ذنب جناه . كمال بن عوف ضابط الأمن الذي أصدر الأوامر ليسع الزبانية جسد فارس بالسياط ، لم يجد لذة يترجاها أفضل من أن يختطف منه حبيبته أمل . قبسٌ من النور يلتمع وسط هذه العتمة حين يسوقنا فضيلي نحو سردياته التي تلتف حول الذهن بالقفز الرشيق من أسفل قاع اليأس إلى مرتفعات الأمل العلية . هكذا عاد الدقّم حراً من أسر التمرد ليقترن بفطين العسل ويجبر خاطرها وسط زغاريد أسرة ” ألد رحمن” و مباركة أبيه الناير ول حسن و من قبل ذلك احتفاء رويانة بأسرها . رويانة التي باتت أكثر معرفة بحتمية انتصار حكايات العشق العنيدة ، تعلمت هي الأخرى شيئاً جديداً .
” هذه الضفاف تعرفني ” لم تكن سوى أهم أدوات فضيلي جماع لتشخيص خيبتنا الجماعية كأمة . رواية طرحت عدداً من الأسئلة الجريئة حول جدليات أثقلت بوطأتها تاريخنا الاجتماعي و الثقافي لتمتد بسطوتها لإرث سياسي عريق من الصراع والإقتتال و الفشل .
علامات استفهام عميقة بعثرها فضيلي هنا و هناك . صراع عنيف بين متضادات شتى ترقص حوافرها على جسدنا الإجتماعي كخيل لا ترحم مواضع العصب منه . لغة القبيلة والإنتماء العشائري ما زالت تنقش أحرفها على جدار الحاضر ، تشكل ببأسها طلائع المستقبل .كألهة الشر عند الكوشيين ، ظلت – بكيدها-تحبط جحافل الأمل و تعبث بكل قوانين التمازج .
ليل ٌ من الترهات استحلكت من ورائه التفاصيل . برغم ذلك كله ، أبقى فضيلي على باب النهايات موارباً نحو اجابات مفتوحة لكل ما طرحه من أسئلة . اجابات مبعثرة قد تجدها في كلمات وضعها الكاتب على أفواه ابطال روايته كفارس و مجاك وسناء الفوراوية .
وقد تجدها تتوسط حوارات عميقة جدا في مضمونها الفلسفي كتلك التي أُجريت على ألسنة العمدة بقت أجينق و كوال دينق ذلك الأبنوسي النبيل وكذلك بابكر محمد الحسن و الشيخ جاموس . صفوة ما أردنا الذهاب إليه ، أن فضيلي جماع قد حفر بعمله الرائع هذا نقشاً عميقاً في جدار الرواية السودانية . وفتح بالأغوار العميقة التي سبرتها ” هذه الضفاف تعرفني” .. فتحاً مهماً من أجل توظيف الأعمال الإبداعية لكي يقرأ المجتمع ذاته قراءات نقدية عميقة تخاطب منابت المشكلة السودانية و بذور نشأتها الأولى من خلال إسقاطات الثقافة والتاريخ والسياسة .