رحلتي إلى آخر الدنيا (15): بين مدينتين

رحلتي إلى آخر الدنيا (15): بين مدينتين
  • 28 أكتوبر 2019
  • لا توجد تعليقات

أنور محمدين

خرجنا الصباح عابرين ضواحي فانكوفر إحدى أكبر ٣ مدن كندية. وهنا يستثمر الصينيون في شراء الفلل والشقق وناطحات السحاب وهو دابهم في كل أنحاء المعمورة، بل تمتد أنشطتهم للاستثمارات الكبرى كتشييد الجسور والطرق العابرة ولمجالات النفط والكهرباء والتصنيع والتعدين. ومن بوابة الاقتصاد يبنون بعيداً عن جلبة السياسة إمبراطورية ” صنع في الصين ” وهي مصنع العالم بحق.

نحن مازلنا في سنة أولى استثمارات خارجية عند عتبة شراء الشقق التي يمتلك السودانيون منها في مصر ٣٦٠ ألف شقة. ويتدافع كثير من ملاكها ومستأجريها في موسم الهجرة إلى الشمال للصوم فيستبدلون الرمضاء بالنار، ويظفر من يقصدون عروس المتوسط الإسكندرية فيما تتجه قلة لأديس حيث الهضبة الأثيوبية، والجو المطير المعتدل. وفي الحالتين يحملون المستلزمات من السودان.

كنت في طريقي من مانيلا للسودان ذات مرة بعد غياب ٩ سنوات وكلي شوق فنزلت في الدقي بالقاهرة بترتيب صديق فدعاني سودانيان في العمارة لتناول فطور رمضان معهما حيث وجدت العصيدة بملاح التقلية والترمس والقنديلة وشرابي الكركدي والحلومر. وقالا لي إنهما لا يشتريان من مصر غير الخبز والفواكه! وقالا إنهما من عاصمة السودان الأولى مدني .. جزيرة الفيل فمازحتهما قائلاً إنني أعرف حيكما العريق، والمفارقة أنه رغم اسمه لا جزيرة ولا فيه فيل واحد فضحكا وامتدت العلاقة.

وكان الحكمدار التركي عثمان بيك جركس قد نقلها للخرطوم، وقد استهواه موقع عناق النهرين ١٨٣٠ حيث كانت قرية حول مسجد الشيخ إدريس العقائد وخلوته، وهو من محس توتي. هذا إن غضضنا الطرف عن سنار عاصمة السلطنة الزرقاء أي مملكة الفونج التي كتب آخر ملوكها لإسماعيل باشا محذراً:
.. لا يغرنك انتصارك على الجعليين والشايقية فنحن الملوك وهم الرعية.

دخلنا عيادة أسنان وملأنا في الاستقبال استبانة عند موظفة مليحة ترسم على محياها البسمة المهنية. ولاحظت أن على الجدار شهادات العاملين مؤطرة وموثقة فلا مجال لاكتشاف أن طبيبك طباخ مثلاً لاحقاً.

كنت أشكو من احتقان في اللثة فتمددت على الكرسي الطبي، وبعد المعاينة قرر الاختصاصي فتح الورم، ولم يقتنع باقتراحي أخذ كبسولات مع مطهرات. ولما شرعوا في إحضار المعدات طلبت تخديري موضعياً بدءاً، فخفف الطبيب من روعي بأني لن أشعر بشيء. وبعد برهة من مسح جلتين مخدر على الموضع غرزوا إبرة التخدير في شفتي فتمالكت وجعي خاصة ويقف على فكي طبيب وطبيبة فكان لا بد من محاولة “جعلنة”، ومثلنا يقول: الصقر إن وقع كتر البتابت عيب.

خرجت بعد نصف ساعة من قبضتهما، وتناول بسام الوصفة الطبية، وأحضر من صيدلية ٣ زجاجات بلاستيك أسطوانية تحوي حبوباً في كل منها ديباجة مطبوعة لاصقة تحمل اسمي الطبيب والمريض وعنوان العيادة والهاتف ونوع التشخيص، وطريقة الاستخدام، مع تنويه بعدم وضعها في متناول الأطفال. تصوروا .. فلا مجال لخلط حبوب الحاج والحاجة فوق الشباك!

بعدها صعدنا إلى الطابق الثالث من عمارة كله محال تجارية وكافتيريات إحداها مكتوب على لافتتها بالعربية والإنجليزبة “مشاوي حليمة”، وهي شابة صومالية ناجحة تمتلئ مقاعد صالتها بالزبائن.

انطلقنا بعدئذ للساحل فدخلنا باخرة سياحية ذات ٤ طوابق فتركنا السيارة مع عشرات غيرها في الطابق الأدنى وصعدنا للأعلى حيث كافتيريا ومحل تجاري يحوي كل ما يطلب حتى العطور والخمور بأنواعها وصحفا ومجلات مجانية.

فيما كانت الباخرة تشق البحر كنا نتابع على مقاعد وثيرة حركة الركاب من كل جنس، وأمامنا أكواب شاي نحتسيه بهداوة.

بعد ساعة وربع رسونا على فكتوريا، وهي جزيرة كندية ساحرة تمتد نحو ١٢٠٠ كلم ما يعادل المسافة من سنار لوادي حلفا.

التطبيب في كندا ميسر والأدوية رخيصة فقابلت استشارياً مخضرماً لطيفاً في عيادة كبيرة لإجراء مراجعة شاملة.
بدأ بالكشف السريري المتأني، وامتد لتمارين خفيفة، ثم أسئلة متعددة ولما عرف أن بسام زميل في الحقل الطبي دردش معه، وخلص إلى أنني بخير، ولا أحتاج لأدوية، ولما كان قد ذكر أنه يتردد على شرق أفريقيا، وشهد بعض روافد النيل هناك قلت له: إن النيل يشق بلادنا، ودعوته لزيارتها، وإنه يسعدنى استقباله، فشكر وأسرع لمكتبه وأحضر زجاجتي فيتامينات، وطلب أخذ حبة من كلتيهما يومياً لمدى ٣ أسابيع، فشكرناه على كريم تعامله وانصرفنا.

الآن ندخل أكبر حديقة زهور في العالم حيث تتراص السيارات .. كل مجموعة خلف رسمة حيوان للمساعدة على الوصول للسيارات سريعا عند العودة.

أوقفنا سيارتنا وراء صورة حصان، ودخلنا لتطالعنا محال مأكولات ومشروبات وأخرى لبيع تذكارات وتحف.
بدأنا الطواف على أقسام كثيرة ونباتات وأزهار تحمل أسماء الدول المستقدمة منها ولم تتخلف دولة أوروبية، فضلاً عن بعض دول آسيا وأستراليا وكانت جنوب أفريقبا الحاضرة الوحيدة من قارتنا في محفل الجمال العالمي الذي شرعت فيه سيدة تطوعا ١٩٠٨ لتحيل ركام مصنع أسمنت منهار لمقصد جمالي فتذكرت حكمة الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون “إن الشخص الواحد إذا اجتمعت معه الشجاعة صار أغلبية”.

وهو الرئيس السابع مؤسس الحزب الديمقراطي وصورته على فئة ال ٢٠ دولارا فيما ترامب الرئيس ال ٤٥.
جلسنا بعد ما أصابنا رهق التجوال عند نافورة تتقاذف مياهها الملونة بينما تعلو هامها سمكة بولطي صناعية قافزة مطابقة للأصل فكان فني تصوير محترف يصور كل زواياها ببطء وعناية ربما لقناة تلفزيون قد نظهر في بثها يوما.
هنا غدران في قيعان مشجرة زاهرة ننزل لها بسلالم حجرية وهناك مرتفعات بأزهار جبلية نادرة وفي كل مكان روعة لانهائية .. وحدها توارت النخلة لغياب العرب. وعلق بسام؛ كيف كان سيعبر شعراؤنا العظام الذين كتبوا عن الزهور والورد لو شاهدوا هذا العرض الباذخ؟

ومنه بالطبع إبداع القرشي وتطريب الشفيع:

الزهور والورد شتلوها جوة قلبي
عشان حبيبي تذكارو ديمة عندي

وفي زاوية هنا دولاب ماء خشبي مثل الذي كان في سواقينا يدفع ماء يتدفق سلسا وعند مصبه يضع بعض الزوار قطعا نقدية استبشارا وتفاؤلا بتحقيق أمنيات سندسية عزيزة’ وأمامنا شابات مشرقات ينضحن ألقا وبهاء ينهمكن في النظافة والتلميع .. دنيا حظوظ مايلة!

خرجنا بعيد المغرب بقليل بعد طواف عجل على مساحة متنوعة توازي السوق العربي وأعلام الدول المساهمة تخفق عالية ثم توقفنا لحمل العشاء. وخلال ذلك مر بنا طلاب أثيوبيون يدرسون في جامعة فكتوريا العريقة التي تضم طلاباً عرباً من الجنسين أيضاً.

أخيرا دخلنا شقتنا المفروشة بعد يوم رائع سيظل منقوشا على وجداننا على مدى الأيام.



الوسوم أنور-محمدين

التعليقات مغلقة.