سأوضح للشعب السوداني عبر مؤتمر صحفي المشاريع المعطلة التي لم يكترث لها النظام
عقدت ٣٥ اجتماعاً مع االمانحين وسننجز مشاريع بعون الصناديق العربية والإسلامية
تثبيت سعر الصرف وتوحيده شرط أساسي لتنافسية الاقتصاد
تَسَيَّدَت العقلية الريعية للنظام السابق ففقدوا عائدات البترول وبدؤوا يبحثون عن الذهب
حاوره في واشنطن: صلاح شعيب
أدى فشل النظام البائد في كل المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الى تدهور شامل وتراجع وصل الى أخلاق وسلوكيَات الانسان السوداني التي كانت مضرب المثل.
تَخَبط خُطَطه الاقتصادية انتهى بدمار كل المشاريع التنموية في البلاد، واستشراء الفساد، وهجرة الملايين من المواطنين بحثا عن العيش الكريم بعد أن توسَّعت دائرة الفقر وأصبحت المَسْغَبة ملمحاً بارزاً في كل أنحاء السودان، ريفاً وحضراً، مدناً تريَّفت وقرى هجرها أهلها.
وفي آخر الأمر، ساهم الاقتصاد، بجانب عوامل كثيرة هامة، في انطلاق شرارة الحراك الثوري حتى انتصر وذهب النظام البائد غير مأسوف عليه، بل تلاحقه وستلاحقه اللعنات حتى وإن تَحَسَّن الوضع الاقتصادي، وليس ذلك على السودانيين بعسير، ولا على خالقهم بكثير، بعد أن مَكَّنهم مِن هزيمة مَن تاجر بدينه واسمه ومصحفه الكريم.
ومع ذلك، سيظل الاقتصاد يمَثِل تحدياً كبيراً أمام استقرار البلاد، والامر لن يقف عند الحكومة الجديدة برئاسة الخبير الاقتصادي د. عبد الله حمدوك، ولن ينتهي بانتهاء فترتها الانتقالية وتسليم السلطة لحكومة ديمقراطية منتخبة. الشاهد ان تدهور الاقتصاد السوداني يمثل عرضاً لمرضٍ عميق يرتبط في الأساس بالهيكلة السياسية للدولة، فالسياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة.
حملنا كل هموم الاقتصاد السوداني وجلسنا بها مع وزير المالية د. ابراهيم البدوي، وقصدنا أن يكون حديثه معنا مفتوحا فامتد لحوالي ساعتين من الزمن، باسئلة قصيرة واجوبة، لا نريد ان نصفها ونفسد على القارئ فرصة تقييمها لوحده واختيار الوصف الذي يريده لها.
فإلى مضابط الحلقة الأولى من حوار (الوطن) الصحيفة، لأجل الوطن السودان، مع وزير المالية د. إبراهيم البدوي:
مرحبا د. البدوي وشكراً لخصنا بهذا الحوار والذي نأمل أن يجيب على أسئلة الرأي العام خصوصا أن جولتكم الاولى للولايات المتحدة بعد تنصيبكم امتدت لقرابة ثلاثة أسابيع، أرجو ان تفيدنا بأهم نتائج الزيارة ومردودها على الوضع الاقتصادي في البلاد؟
الزيارة اكتسبت أهميتها من ضرورة خلق اختراق في توجهنا الاقتصادي الجديد، وهي تأتي في ظل الظروف التي تكتنف السودان جراء المقاطعة الشاملة، والتي ما تزال تلقي ظلالها على واقعنا الاقتصادي، وغير الاقتصادي. أتينا إلى واشنطن قبل الاجتماعات السنوية للبنك الدولي وصندوق النقد، واستبقناها باجتماعات مع الصناديق العربية، وهي هامة لجهة التمويل التنموي إذ إن النظام السابق خلَّف مآسٍ في هذا الإطار. وبالتالي كانت كثير من هذه الصناديق قد جمدت تعاملها مع السودان نتيجة لعدم دفع المتأخرات، والتي تبلغ مئة مليون دولارا. ولو كانت المبالغ التي وُجِدَت بحوزة الرئيس المخلوع قد سددت بها متأخرات هذه الصناديق لكفت، وكان يمكن بعدها فك تجميد مشاريع مثل كهرباء الفولة وطريق القضارف ومستشفى الفاشر ومشاريع كثيرة لها علاقة بالطرق والصحة والتعليم. وهذا يوضح عدم اكتراث النظام البائد بالتنمية الاقتصادية والمجتمعية. وطبعا كما هو معلوم أن النظام كان يستخدم حجة المقاطعة الدولية، ولكن هذه الصناديق لم تكن مقيدة بالعقوبات والتعامل مع الدول الراعية للإرهاب، وبالتالي ليس للنظام السابق حجة في هذا التفريط في التعامل مع هذه الصناديق. وأنا بصدد عقد مؤتمر صحفي بعد عودتي لتوضيح أبعاد هذه الزيارة، وسأسرد مجمل المشاريع المعطلة التي لم يكترث النظام بها حتى يسعد المواطن.
وهل نجحت في التفاهم مع بعض الصناديق لجدولة بعض المتأخرات ليتسنى لكم تنفيذ بعض المشاريع المعطلة هذه؟
الحمد لله وفقنا أوضاعنا مع هذه الصناديق بتسديد بعض المتأخرات، وأيضا مع البنك الإسلامي والذي هو ممول كبير للمشاريع التنموية في السودان. وأذكر اننا توفقنا في دفع متأخرات الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وعقدنا هناك اجتماعا رائعا وممتازا، جمعني مع السيد عبد اللطيف الحمد المدير العام للصندوق وهو من أصدقاء السودان الدائمين الكبار، وتحدثنا معه عن مشاريع سيكون لها أثر كبير سميناها مشاريع “القطوف الدانية”، وهي معنية بزيادة القيمة المضافة في القطاع الزراعي والحيواني، ابتداءً من المسالخ في مدينة نيالا، وهذا أمر مرتبط بتطوير مطار المدينة ليكون دوليا، ومن ثم استهداف أسواق في نيجيريا والجزائر والأسواق الأوروبية والخليجية، لتسويق اللحوم المذبوحة، وذلك نظرا لأن نيالا منطقة معروفة باكتنازها بالماشية مثل الأبقار وخلافها.
وماذا على صعيد بحث إمكانية الاستثمار في القطاع الزراعي والحيواني مع هذه الجهات المانحة، خصوصا أن السودان غني بموارده في هذا المجال؟
في الحقيقة تحاورنا أيضا معهم حول محور النهود ـ الأبيض، والذي يستحوذ على ٤٠% من الضأن الذي يحظى بطلب كثير عليه في الدول الخليجية، وهذا المحور سيفتح أسواقا اللحوم السودانية المذبوحة، وهناك أيضا تناولنا موضوع الثروة البستانية في منطقة جبال النوبة ورشاد وأبو جبيهة وولايتي نهر النيل والشمالية، وتفعيل مطار مروي وولاية كسلا والجزيرة. وهذه كلها مناطق مرتبطة بإنتاج بستاني وفير، ويمكن أن نفتح بها أسواقا للتصدير. وهناك في مائدة الحوار مع المعنيين باقتصادنا كان موضوع الصمغ العربي، والذي يحظى باهتمام كبير في الولايات المتحدة، ونحن الآن نصدره خاماً عن طريق وسطاء في أوروبا، وسوف نستطيع أن نبحث إمكانية تصدير المنتجات المصنعة من الصمغ العربي. وأيضا كان الحديث عن الحبوب الزيتية في القضارف وأم روابة، سواء تصديرها مباشرة أو تصديرها عن طريق البحر، وهذا أمر متصل بتطوير الساحل. وهناك موضوع مطار الخرطوم، وكل هذه المشاريع الحيوية والضرورية بحثناها مع عبد اللطيف الحمد، وأيضا مع صناديق التنمية الأخرى، وعبر ميزانية العام ٢٠٢٠ وما بعدها، يمكن تمويلها بسهولة في إطار الشراكة بين القطاع الخاص السوداني والشركات العالمية الكبرى المتخصصة في التصنيع الزراعي.
موضوع التعامل مع البنك الدولي وصندوق النقد اخذ الكثير من اهتمامات الرأي العام، هل استطعتم التفاهم حول مديونيتهما تجاه السودان، وما هي أبرز ملامح سياستكم معهما؟
نعم كان لدينا اهتمام بالعلاقة مع البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي وصندوق النقد الدولي. وهذه تسمى بمؤسسات التمويل الثلاث التي تتأثر بعدم دفع المتأخرات، ومتأخراتنا حيالها تقدر بنحو ٣ مليار دولار، وهذا مبلغ ضخم جدا. وهذا المحور أخذ معظم اجتماعاتنا، ومقرر عقدنا الاجتماع الأخير مع المدير التنفيذي لصندوق النقد يوم الاثنين ـ أمس ـ وتجاوزت اجتماعاتنا في هذا المحور نحو خمسة وثلاثين اجتماعا، معظمها كان معنيا بمعالجة دقائق الأمور، وتطرقنا إلى كيفية أن ننطلق اقتصاديا في ظل لائحة العقوبات والدول الداعمة للإرهاب، وكيفية الاستعداد لإعادة تأهيل السودان للاستفادة من القروض والمنح ومن مساعدات التنمية الدولية.
وما هي نتيجة الحوار مع مسؤولي البنك الدولي؟
نحن الآن وضعنا خطة مع البنك الدولي وسيتم تأكيدها مع صندوق النقد، وتقضي بأن نلتزم ببرنامج قدمناه يستند على تثبيت الاقتصاد الكلي وإعادة هيكلة الموازنة والجهاز المصرفي، بالإضافة إلى العمل للانتقال الاقتصادي.. نحن لا نعني أننا سنرفع الدعم، فنحن ننتقل من دعم السلع إلى دعم المواطن. ولدينا خيارات في هذا الموضوع، فهناك خيار يسمى الدخل الأساسي الشامل، وهو معني بتقديم مبلغ ثابت شهرياً عن طريق إيداع مباشر، سواء كان في حسابات البنوك، أو وسائل أخرى مبتدعة تسمى المال المنقول “موبايل مُونِي” لسكان الريف الذين ليست لديهم حسابات في البنوك. وهذا مشروع كبير سيغير وجه السودان وسيكون بمثابة عقد اجتماعي جديد. ونحن لا نفرق بين المواطنين السودانيين، ولكن لا ندعم سلعا يستهلكها بعض الناس ولا تصل للآخرين.
ولكن هل هذا يعني أنكم سترفعون الدعم عن السلع؟
لا.. نحن سندعم المواطن السوداني مباشرة دون وسيط، وهذا من أبرز المشاريع في التنمية الدولية. مشروعنا أشبه بمشروع رجل الأعمال العالمي بيل قيتس المسمى “جي تو بي”، اي دعم الحكومة للمواطن، وليس بالضرورة هو مبلغ كبير، وإنما ثابت لأسرة مكونة من خمسة أشخاص بحيث ان تحصل مثلا على ألف وخمسمائة جنيها في الشهر، هذا إذا كانت تقيم في ريف كتم أو الدمازين أو القضارف أو دنقلا أو النهود، وهذا الدخل ربما يمثل لها دفعا ماديا كبيرا يرفع الأسرة من خط تحت الفقر إلى فوق خط الفقر، وهذه آلية مستخدمة في بلدان كثيرة. وهناك آلية أخرى مرتبطة بالتعليم، وهو أن تقدم دعماً مستنداً على عدد التلاميذ الموجودين في المدارس المنتمين لهذه الأسرة، أو تلك.. وهناك أيضا بعض العاجزين عن العمل من كبار السن أو النساء الحوامل أو دعم الأطفال الصغار دون الخامسة. وهذه كلها اجتهادات طبقت في دولة كثيرة في العالم حسب طبيعتها.
وهل هذه المقترحات الاقتصادية ستقومون بتنفيذها جملة وتفصيلا لوحدكم، أم تتاح فرصة للرأي العام والخبراء الاقتصاديين ليدلوا بدلوهم حولها؟
نحن نقدم هذا كبرامج ومقترحات ليجري حوار مجتمعي حولها لنحقق هذا التحول الاستراتيجي، والذي في تقديري يصب في شعار الثورة المعني بالحرية والسلام والعدالة، وهذه هي العدالة الحقيقية. وأحب أن اؤكد اننا لن نلجأ لأي تغيير لنظام دعم السلع الحالي إلى بعد أن نحقق بعض الترتيبات الأساسية المتعلقة بالمواصلات العامة، ومراجعة الهيكل الوظيفي، وتعديل بعض المرتبات لمحدودي الدخل، وتحسين الميزانية، خاصة فيما يتعلق بزيادة حصيلة الواردات العامة من ضرائب وغيرها.
ويجب الإشارة إلى أن النظام البائد رغم كل الجبايات كان يدير دولة موازية بميزانية موازية، وكان الجهد المالي، أو ما يسمى حصيلة الإيرادات العامة للناتج المحلي تساوي ٦%، وهي أقل مؤشرات التحصيل للإيرادات في العالم حيث ان متوسط افريقيا يتراوح بين ١٢ إلى ١٥%. وبالتالي يجب ان أقول كشخص مسؤول ان الله لم يكرم ما تبقوا من أنصار النظام الذين يلهجون بألسنة حداد بأي قدر من الفضيلة، لأن هذا الدمار الذي أحدثه النظام للبلاد كان مفاجئا لنا بعد أن عدنا للبلاد، ووقفنا على أدق أسرار البلاد، سواء المتعلقة بالصناديق العربية، أو تبديد الأموال، وعدم صرفها على التعليم، والصحة، والمياه، والبنية التحتية، وغيرها.
وما هي خطواتكم المقبلة عقب نجاحكم عبر الزيارة في الالتقاء بالداعمين وتوضيح وجهة نظركم للإصلاح الاقتصادي؟
بعد كل الاتصالات التي عقدناها في الخارج سنعمل على بناء موازنة تعتمد على أهداف التنمية المستدامة، وهي تعنى بالتركيز على التعليم، والصحة، والخدمات الاجتماعية. وهذا محور يستند على ثلاثة محاور أساسية: الأول هو تثبيت الاقتصاد الكلي، والمحور الثاني هو الانتقال ـ وأشدد هنا على كلمة الانتقال ـ من الدعم السلعي غير المستدام إلى دعم مباشر للمواطن وعندئذ سنعمل بمرونة، وسنكون منفتحين لعمل حوار قبل تطبيق هذه السياسة. ونستمع لآراء الناس، ومن ثم نختار أفضل تصور في هذا الاتجاه يصل له الرأي العام ثم نطبقه. وأخيرا هناك المحور الثالث وهو تقوية السياسة النقدية، وسياسة سعر الصرف، ذلك لأن تثبيت سعر الصرف، وتوحيده هو شرط أساسي لتنافسية الاقتصاد، خاصة لجهة التصدير. ولا ننسى ان اقتصادنا زراعي، ونحتاج لفتح أسواق محلية وعالمية له، وتنشيط الصادر، وتنويع قاعدة الاقتصاد بصادرات زراعية مصنعة، بالإضافة إلى إصلاح قطاع التعدين. وهذا موضوع كبير، إذ إننا، بجانب وزير الطاقة في القطاع الاقتصادي داخل مجلس الوزراء سنبحث سياسات قطاع التعدين. وهناك إصلاح كبير منتظر في المجال، وكذا في مجال البترول، والذي يمكن أن يكون رافدا هاما للاقتصاد السوداني، ولكن في إطار دعم القطاع الزراعي، والصناعي، والاجتماعي، وليس كما كان يحدث في النظام السابق، حيث تَسَيَّدَت العقلية الريعية. فقد ذهب البترول وبدأوا يبحثون عن الذهب، وأغفلوا الاهتمام بالقطاع الزراعي، والصناعي، وخلق مشاريع عمالة لاستيعاب الشباب.
لاحظنا من خلال زيارتكم ان هناك جهات تتعاطف مع السودان ومن بينهم الرئيس الأسبق جيمي كارتر الذي كتب مقالة مهمة مناشدا الإدارة الاميركية رفع العقوبات، كيف يمكن توظيف هذه الاتجاهات والأفراد البارزين في المجتمع الاميركي للمساهمة في دعم السودان معنويا واقتصاديا؟
نعم ركزنا في زيارتنا للولايات المتحدة على محور يتعلق بالدعم الكبير من أصدقاء السودان في المحافل الاقتصادية العالمية، والذين لديهم إدراك كبير أن السودان بحاجة إلى أن يُرْفَع من قائمة الدول الراعية للإرهاب بعد أن حدث تحول هام، وكبير، واستراتيجي، حيث بدأت السلطة المدنية مزاولة أعمالها. وقد تشكلت معالم لممارسة سلطاتها خصوصا لجهة وجود شراكة بدأت تتعزز بين المؤسسة العسكرية والسلطة المدنية، وهناك خطوات في اتجاه تثبيت دعائم الحكم المدني برغم وجود هنات هنا وهناك. ولكن الرؤية الآن هي أن هناك نوعا من التوافق لتثبيت الانتقال السلمي لسلطة ديمقراطية منتخبة عبر تهيئة البنية القانونية، والمؤسسية، وإقالة عثرات الاقتصاد، وقبل كل هذا تحقيق السلام.
غداً مع الحلقة الثانية ومحاور جديدة.