عندما ترفض وتماطُل إدارة جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا المملوكة للمعتقل مامون حميدة في تنفيذ قرار المحكمة وترجيات أولياء الأمور يصبح من المؤكَّد أن إدارة الجامعة آنذاك كانت تقصُد من إصرارها على إقامة الإمتحانات في مواعيدها رغم الظروف المفصلية التي تمر بها البلاد وشعبها أن تُعطي مؤشِّراً يدعم حكومة الإنقاذ ويساندها في لفت نظر الرأي العام والعالم من حولها بأن الأوضاع في السودان في تلك الفترة لم تزل مُستقرة، ولكن الأشاوس الشرفاء من طلابها وطالباتها ضحوا بمصلحتهم الشخصية من أجل التضامن مع إخوانهم وأخواتهم في الجامعات الأخرى وامتنعوا عن الجلوس للامتحان
وقد قضت المحكمة بإعادة الامتحانات التي أصرَّت الإدارة على إقامتها إبان اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة رغم مقاطعة أغلبية الطلاب لها تضامناً مع الثورة وانحيازاً لإرادة الوطن والشعب، واحتراماً لأرواح الشهداء ودماء الجرحى.
لا مجال بعد الآن للتسويف في حق الوطن والشعب في هذه الصروح الأكاديمية المُستلبة بأمر التمكين السياسي، وإن كانت (خاصة)؛ لأن تصنيفها من واقع كونها (أملاكاً خاصة) ومشاريع استثمارية يُعرِّض المستقبل الأكاديمي لهذه البلاد مرةً أخرى للخطر الداهم .
لقد آن الأوان أن (تُربط) هذه الجامعات بطريقةٍ أو أخرى بسيادة الدولة عبر الولاية المباشرة عليها من قِبل وزارة التعليم العالي، وذلك من أجل إدماجها في المخطَّط الوطني العام للتعليم فوق الجامعي بحسب الرؤى التي تحكم دولتنا الجديدة، وأيضاً لتحريرها من قبضة خلايا التنظيم السياسي الذي ظل يستغلها أعواماً عديدة للاستقطاب الفكري والسياسي والإثراء المادي لأصحابها من منسوبي النظام البائد عبر الرسوم المتزايدة عاماً بعد عام وغير الخاضعة للرقابة والتقويم والمراجعة.
لقد كان تحطيم وإفقار وتفكيك منظومة التعليم الحكومي في السودان في القطاعين المدرسي والجامعي عملاً سياسياً مُنَّظماً وممنهجاً عبر خطة مدروسة ومُحكمة قامت بوضعها المراكز التخطيطية للنظام البائد، استهدفت بها في المقام الأول فتح مجال استثماري (مُغلق) و(مُحتكر) للإسلامويين، وفي المقام الثاني استهدفت الأجيال الجديدة في تلك المعتقلات الأكاديمية الخاصة عبر الإمعان في حجب معالم التاريخ السياسي السوداني الحقيقي عن مناهجهم ومناشطهم الروتينية، ثم استخدام ذلك القطاع الواسع الانتشار في عمليات الاستقطاب السياسي والفكري لصالح تنظيمهم السياسي البائد خصوصاً في المراحل قبل الجامعية، هذا فضلاً عن استغلال مصيبة الاستقلال التام عن موجهات وزارتي التربية والتعليم العالي في تمرير الكثير من الأجندات المؤيِّدة لسياسات النظام البائد والتطبيل لتوجهاته وفساد قياداته.
لا مجال للحديث عن الانطلاق في عملية بناء السودان الجديد دون الالتفات إلى هذا الملف المهم والإستراتيجي؛ لأنه (يتحكَّم) في أهم معاوِل عجلة التنمية المستدامة المتمثِّلة في الإنسان السوداني وتأهيله الفني والأكاديمي والسلوكي، هذه المؤسسات الأكاديمية الخاصة على المستويين المدرسي والجامعي يجب أن تكون عاجلاً وليس آجلاً في (قبضة) الدولة السودانية الجديدة وتحت سيطرتها ورعايتها بأي صيغةٍ قانونية أو إدارية متوفِّرة.
ما يحدث الآن في الدولة (العميقة) للتعليم الخاص هو المنبع الأساسي لمشكلات البناء والتنمية في السودان، وذلك عبر بوابة الانهيار (المُخطَّط) للتعليم الحكومي التي خرجت من أضابيرها آفات الفقر والمرض والتخلُّف، وتراجع سيادة دولة المؤسسات وانعدام ثقة الناس، وتقديسهم للعدالة، عندما أصبحت القوانين واللوائح (حقاً مُحتكراً للنخبة الحاكمة) .. هذا أو الطوفان.