هناك تياران يصطرعان في الساحة السياسية الآن، تيار يعتقد أن ثورة ديسمبر قد انتصرت ووصلت مرحلة الدولة بتكوين الحكومة الانتقالية وأن الوقت قد حان للعمل من أجل بناء دولة السلام و الحرية والعدالة التي نادت بها الثورة، وذلك من خلال العمل على الأرض بتنفيذ البرامج والخطط التي تنقل الوطن من حالة الشمولية إلى حالة الديمقراطية.
التيار الثاني يرى أن الثورة مازالت ثورة، ولم تصل بعد إلى مرحلة الانتصار، وأن الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية مجرد شرك مزيف أريد به سرقة الثورة، وبالتالي فإن هذا التيار يعمل ليل نهار على إثبات صحة رؤيته من خلال تهييج المشاعر بصور الشهداء وفيديوهات فض الاعتصام، و سعى جاهداً للسيطرة على الجماهير عبر رفع اعتصام القيادة العامة الى درجة القداسة، وهي الدرجة التي يغيب عندها العقل الواعي، ويسيطر فيها القلب العاطفي وتصل فيها الجماهير الى مرحلة الغيبوبة الهوسية فيسهل قيادها لتنفيذ الأجندة التي تراها الجماهير الغائبة عن الوعي كاجندة للقصاص للشهداء والضحايا بينما هي في الحقيقة أجندة خفية لتصفية تيار الثورة الأول والسيطرة على الوطن.
ما حدث في فض اعتصام القيادة العامة و ما تبعه جريمة بلا شك، ولكنها ليست الجريمة الأولى في هذا الوطن المثخن بالجراح، فالجرائم كثيرة وأفظعها بلا شك الإبادة الجماعية في دارفور، و ناك جرائم الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وجرائم بيوت الأشباح، وجرائم ضحايا السدود، وجرائم بورتسودان وعسكر العيلفون وانقلاب ٢٨ رمضان، و عدد لا يحصى من الجرائم التي ارتكبها المجرمون، و لكنها في نهاية الأمر هي مجرد انعكاس لشرور الصراع حول السلطة، لذلك مواصلة استخدام هذه الجرائم من أجل استلاب الجماهير في الوقت الراهن هو عمل مناقض لوعي الثورة وهادم لأمانتها ومفكك لوحدتها ولن يقود الا إلى ثورة مضادة لن تعتمد في حكم الوطن إلا على القهر والكبت وتصفية الحسابات، وهي ذات الأسباب التي ثارت ضدها الجماهير في ديسمبر .
مهم في هذه اللحظة التاريخية أن تستوعب الجماهير انها ليست لعبة في يد التيارات السياسية، توجهها كيف تشاء باستغلال عاطفتها، فكما استغلت الإنقاذ الشعب السوداني بعاطفة الدين من قبل، وظهر للجميع انها كانت أكبر كذبة في التاريخ السياسي السوداني، فإن تيارات متعددة تريد الآن أن تستغل ذات الشعب عبر عاطفة استعادة حق ضحايا اعتصام القيادة العامة لتحقيق أجندتها الذاتية.
كل ضحايا الوطن الذين بذلوا أنفسهم من أجل فجر الحرية هم على مستوى واحد من القيمة والأهمية ، واستعادة حق هؤلاء الضحايا لا يكون بالمحاسبات فقط، وإنما في المقام الأول بتحقيق ما ضحوا من أجله وهو دولة سودانية تنعم بالسلام وحكم القانون ويتم تبادل السلطة فيها سلمياً عبر انتخابات حرة ونزيهة يكون فيها الشعب فقط هو من يحدد من يحكمه.
مهم في هذه اللحظة ومن أجل عزل كل الموتورين الذين يريدون نسف الحكومة الانتقالية للثورة أن يتم الفصل الكامل والواعي بين العمل السياسي والعمل القانوني القضائي في جريمة فض الاعتصام وما تبعها. على الصعيد السياسي يتم توحيد أطراف الحكومة الانتقالية جميعها: المجلس السيادي ومجلس الوزراء وقوى اعلان الحرية والتغيير والجيش والدعم السريع، ويتم الاتفاق بين الجميع على ميثاق شرف على العمل الشفاف والثقة الكاملة في بعضهم البعض من أجل إنجاز أهداف ثورة ديسمبر، على الصعيد القضائي يستمر العمل المستقل والمنفصل تماماً عن العمل السياسي على إجراء التحقيقات الشفافة والشجاعة حول كل الجرائم التي ارتكبت في حق الشعب السوداني منذ الثلاثين من يونيو ١٩٨٩ إلى لحظة توقيع الاتفاق السياسي.
يبقى تاكيد ضرورة أن تتفق أطراف الحكومة الانتقالية على المحافظة على مسار القضاء بعيداً عن التأثيرات السياسية وضغوط الجماهير ، وأن يستجيب الجميع لما يصدر عن لجان التحقيق ويعملوا معا على تنفيذه . خلال ذلك يستمر العمل السياسي من أجل بناء دولة السلام و الحرية والديمقراطية.
sondy25@gmail.com