والغيم له قدرة تحريضية على الانفلات.. الانفلات من المألوف، والانفلات من العمل، والانفلات من الحيطان، والانفلات من (بهجة) الكهرباء المقطوعة!
بهذا التحريض يعبر الكثيرون عن انفلاتاتهم الغيمية بالهرولة للفسيخ.
يا الله !
لماذا تنبش الأوجاع يا شاطرابي؟!
الفسيخ ذو السطوة بنكهته، وشطته، وليمونه، ولقمته المغموسة حتى الثمالة في صحنه، ملاذ آمن وقت الغيم شئنا أم أبينا.
هل يستفسخ القوم وقت الغمام نكاية بأيام الصيف اللاهبة؟ أم يستفسخون ملء البطن تنكيلا بالتخمة التي تكون كابوسية إذا اقترنت بحرارة الجو ؟
على أي حال السودانيون لهم مزاجاتهم، ولا تثريب عليهم، فالدنيا حرية وديمقراطية، ولا وصاية على أحد فيما يأكل، حتى لو لحس قعر الحلة بلسانه لحسا، طالما أن الحلة حلته، واللسان لسانه !
تراهم ـ مثلا ـ يأكلون الملوخية مترادفة بصحن آخر واجب الحضور وهو صحن الأرز، هكذا تركب المزاجية السودانية رأسها، فالأرز ـ سامحه الله ـ لا يقر له قرار إلا إذا تشرّب ببعض الملوخية، فترى الملاعق تغرف من الطبيخ وتصب في الأرز، ثم تبدأ الغرفة التالية لخليط الأرز والملوخية لتغيب الملعقة في فم الآكل .. لقمة هنيئة طاعمة كاملة النكهات والجاذبية.
حتى (الملاح الأخضر) لا يخلو من شروط المزاجية، فالملوخية المفروكة، والسلج، والسبروق، والورق، كلها إدامات خضراء، لكن المرء لا يتصور أكلها دون كسرة، كما لا يتصور أن يأكلها دون وجود بصل أخضر أو ـ بالعدم ـ بعض الفجل، فيقضم الآكل رأس البصلة أو الفجلة، وفمه عامر بلقمة سابقة من الإدام، وبهذا يكتمل المزاج!
أما العدس، حفظه الله ورعاه، فمعظمنا يعرفون كيف يجن جنون محبيه عندما يكون مصحوبا بقدحة الثوم، فتفوح رائحته عابقة في أجواء المكان، وتبدأ صافرات الإنذار تدوي في المعدة والأمعاء للمنتظرين، وحتى حين يحتل مكانه في المائدة، فإن الكثير من عشاقه يطلبون أن يصب عليه بعض زيت السمسم، وتلك مزاجية إضافية تستحق التهنئة لأصحابها!
كذلك صديقنا القرع، الذي يفر منه بعض ناقصي الخبرات الأكلية، فله طبيخ هائل، لكن المزاجية السودانية تفرض شروطها المسبقة قبل الجلوس إليه ومن حقها أن تفعل طبعا، فالكل في هذه الأيام له شروطه قبل الجلوس للآخرين، وحتى عند الجلوس تكون الشطة، أقصد الأجندة، حاضرة، فمالنا نلوم المزاج القرعي، وقد تلاعبت بنا الأمزجة في كل شؤون حياتنا؟!
أقول إن من شروط القرع، أن يكون مطبوخا جيدا، وأن يكون مصحوبا بالكسرة لا الرغيف، وأن يتم عجن القرع بالكسرة، مع إضافة الشطة للذين لا يشكون من الحرقان، فتكتمل المزاجية وينعم القوم بألذ وجبة.
هكذا تلعب المزاجية في مأكولاتنا، فلا نجد تفسيرا منطقيا لها، مثلما لا نجد تفسيرا منطقيا لمعظم ما نفعل.
إذن فاليلعب الغيم بأمزجتنا، فنتفسّخ ما استطعنا.
عاش الفسيخ متاعا للآكلين ومتعة للناظرين!