ينتظر أصحاب الإسلام السياسي والتدين الشكلاني، حلول شهر رمضان المُعظَّم كل عام، ليبدأوا في تسويق ترهاتهم وأباطيلهم. فما أن يَهِلّ الشهر الفضيل ويبزغ هلاله، حتى تبدأ رحلة الاستغلال البشع للأجواء الروحية والاستدرار السمج للمشاعر الدينية. وتنقلب الحياة لبازار كبير يصبح الدِين فيه محض بضاعة لعرض ثوابته الخمسة، ويهبط علينا الذين نصبوا أنفسهم وكلاء لله في الأرض، ليوهمونا أننا كالقطيع بل أضل سبيلاً، ويدَّعون أن الله أمرهم بإخراجنا من الظلمات إلى النور. في حين كلنا يعلم أن القرآن الذي نزل على النبي الكريم، ظلَّ وما فتئ يحثّ الخلق بالإقبال على طاعة الله، خضوعاً للحكمة الربانية التي تقف وراء خلق الكون (ومَا خَلقتُ الجنَّ والإنسَ إلَّا ليعْبدُون) كما تعلمون أيضاً أن العبادة لا تتأتى بالكذب والنفاق والتدليس، إنما تكون بالرغبة الحرة والإرادة الطوعية (لا إكراهَ في الدّين قد تَّبيَّن الرُّشْد من الغيّ…) وتلك مرحلة لو أن العبد صدق فيها، فسيكون ذلك سبيله نحو مراقي الربوبية تدرجاً نحو مرتبة الإحسان، أي الوصول لتلك المنزلة الرفيعة التي يعبد المرء فيها الله كأنه يراه.. وبالطبع تلك منزلة ليس للمتاجرين فيها بالدين نصيب!.
(2)
بيد أن غير المسلمين، بل حتى المسلمين الذين يتقون الله حق تقاته، باتوا يتساءلون بلا مجيب: لماذا زعزعة مشاعر الناس بالتخويف والترهيب والترعيب، والدين نفسه دين رحمة وتسامح ومحبة، وليس ذلك فحسب، بل تتسع فيه تلك المودة حتى تكاد تضيق بها جُنباته بما رحبت. فهل الطريق إلى الله لا يكون سالكاً، إلا بتطاير الرؤوس، وتكدير القلوب، وتفزيع النفوس، وانهمار الدماء مدراراً؟ فلماذا إذن هذا الاستخدام السيء لوسائل التقنية، حيث تنهمر علينا الخزعبلات من كل حدب وصوب، لكأننا عرفنا دار الإسلام بعد توهم، أو أننا نحمل من المعاصي على كواهلنا، ما لن يُمحى حتى لو تزلَّفنا لله آناء الليل وأطراف النهار!
(3)
يلفت الأنظار، أن كثيراً من المتنطعين يحاولون أن يوهموا خلق الله بتجسيد عدو مفترض، ويتجاهلون العدو الحقيقي القابع في دواخلهم، والمتمثل في سلوكهم البربري المجانف لقيم الإنسانية، وكذا تنطعهم في أنهم الأحرص على دين الله، غير عابئين بالتخلف الذي أوقعوا فيه العقيدة، والتوحش الذي باعد بينهم والسلوك الإنساني القويم. وللمقاربة نقول، ليس الإسلام وحده الذي دعا للمجادلة بالتي هي أحسن (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) فكل الديانات السماوية نحت نحو المنهج نفسه، ولكن الفارق هنا أن الآية المذكورة فيها توجيه ربَّاني لنبيه الكريم باستخدام ثلاثة قيم سلوكية حضارية، وهي الحكمة (ومن يُؤتَ الْحِكمة فقد أُوتِي خيراً كثيراً…) واتباع الموعظة الحسنة (ولوْ كُنت فظَّاً غَلِيظ القَلْب لانفضُّوا منْ حَولِك) وأخيراً إعلاء قيمة الحوار بالحسنى (وشاورهم في الامر). فلماذا يريدونه ديناً متقهقراً للوراء في حين أنه خاتم الديانات السماوية. وعليه نحن نتساءل: هل يقرأ قُطَّاع الرؤوس ومحبو إهراق الدماء نفس القرآن الذي نقرأه؟
(4)
كلنا يعلم أن الحكمة الأزلية للصوم تكمن في الإحساس بمعاناة الآخرين، وهي الغاية التي لن يشعر بها أصحاب الزرابِي المبثوثة والبطون الممدودة، الذين نراهم يتباهون في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وهم يلتهمون من الطعام أطيبه ومن الشراب أنعشه.. بدءاً من قصر غردون مروراً بالوزارات التي لا يعرف الناس لها عدداً، وانتهاءً بالمتوارين خلف الأذقان المسدولة، الذين أفسدوا علينا ديننا ودنيانا، يتقدمهم (المجاهد) الزبير محمد الحسن. الغريب في الأمر، يحدث ذلك في بلد لا تتضور فيه الغالبية جوعاً فحسب، وإنما يموت فيه الناس بالكوليرا التي أصابت الآلاف، وحصدت أرواح المئات من الفقراء والمساكين، ومن عجب هم ذات الفقراء الذين فُرضت شعيرة الصوم من أجلهم. ولا نملك إلا أن نتساءل: أي دين تتبعون يا أيها الفاسدون؟
(5)
إن ما يسمى (الافطار الجماعي) في دُور الدولة، هو المثال الذي لا تخطئه العين لظاهرة التدين الشكلاني للمباهاة ورئاء الناس، وتلك بدعة برع فيها الأفاكون والدجالون المتسربلون بالعقيدة الإسلامية، والظاهرة بلا شك عبارة عن نهب منظم لأموال الدولة تحت غطاء الدين، وهي ضرب من ضروب السفه السياسي الذي تمارسه الطغمة الحاكمة لتحقيق مأرب أخر لا علاقة لها بالصوم وأحكامه. فأي خُلق هذا الذي يتيح للمنافقين تناول الطعام على أصوات أنين الجوعى والمحتاجين؟ وأي قبح هذا الذي يدعو الناس للتقشف بينما الدعاة والغون في الملذات؟ فويلٌ لمن يخادعون الله وعباده البسطاء، الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم. فيا سلالة مسيلمة أما لهذا الكذب من آخر؟
(6)
(الشيخ) إبراهيم السنوسي، أو الرقطاء التي تمرَّغت بين الجحور، قبل شهور قليلة خلت، تحدث في رهط من الشباب اليُفع داعياً، وليته دعاهم لحمل الأقلام والإقبال على دُور العلم والمعرفة. ولكنه حرضهم على ممارسة هواية قتل عصبتهم في معسكر السلطة، عملاً بمبدأ العين بالعين كما قال. وقال أيضاً إنه ليس هناك ما يخشى عليه بعد هذه السن من العُمر، ولكن ما أن لوَّحت له العُصبة الحاكمة التي بشرها بالموت الزؤام بالسلطة والجاه.. حتى زاغ بصره، فقال في أول حديث له بعد أن (توهط) في كرسي الحكم: إن أهل السودان يمكنهم هزيمة الفقر بقراءة القرآن. أي استخفاف بالعقول واستهانة بالدين يا هذا، أي نوع من الطغاة هذا الذي لم يستح من الخلق ويدَّعي أنه يستحي من الله؟
(7)
قبل سنوات خلت حلَّت كارثة بأهل السودان، في عام يُغاث فيه الناس جراء سيول وفيضانات هدَّمت بيوت وهلكت الزرع والضرع، وكان ذلك تحديداً في العام 1988 الأمر الذي حدا بالجمعية التأسيسية إرجاء مناقشة القانون الجنائي أو قانون الترابي كما كان تطلق عليه الصحافة آنذاك، وجاء التأجيل لدرء آثار الكارثة التي نجمت عن الظروف الطبيعية. فعوضاً عن المواساة التي تحتمها المشاركة الإنسانية في مثل هذه المواقف، انبرى الدكتور حسن الترابي صاحب المشروع، وخاطب الأعضاء قائلاً (إن الله لا يجازي البشر إلا بما ملكت أيديهم) وفي جلسة الجمعية التأسيسية بتاريخ 21/9/1988 جاراه (الشيخ) عبد الجليل الكاروري، وجاء بما هو أنكى وأمر، حينما قال (إن الله أرسل إلينا الطوفان ثمَّ الجراد، وتبقى لنا القمل والضفادع والدم، لأننا مفسدون) كادت الدهشة أن تصرعنا يومذاك، فتساءلنا: أي سادية هذه التي غشت قلوب العصبة وعمت عيونهم؟
(8)
الغريب في الأمر أنه ما أن بلعت الأرض ماءها، وأقلعت السماء، حتى عادوا سيرتهم الأولى في المتاجرة بالدين بغية زعزعة النظام الديمقراطي. ففي أيام من ذاك العام، تزامنت مع نفحات شهر رمضان كهذا، بدأت التظاهرات الليلية في الأحياء الطرفية. إذ أعلن الترابي الجهاد ضد ما أسماه بحكومة (الشتات والردة) وكان ذلك في ندوة بجامعة الحرطوم. وخطب محمد عثمان مكي في تظاهرة من منسوبي الجبهة الإسلامية أطلقوا عليها (ثورة المصاحف) فقال: (إن تأجيل مناقشة القانون الجنائي هو إساءة الأدب أمام الله) وتقمصت روح الحجاج بن يوسف الثقفي علي الحاج فقال: (خرجت الجماهير المسلمة تشعل ثورة القرآن في رمضان، كنا نعلم أن الشريعة لا تأتي إلا بالدم وليس هناك طريق إلا الاستشهاد) أما عبد الجليل الكاروري الذي ما فتئ ينطق كفراً، قال لصحيفة الوطن 3/5/1989 (لن يكون حوارنا بعد اليوم إلا بلغة القوة التي تعرفها السلطة) وأدركنا بعد حين كم كنا نحن غافلون!
(9)
اللهم تقبل منا صوماً خالصاً لوجهك الكريم، امتثالاً لقولك الصدق (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) نسألك ببركة هذا الشهر المبارك أن لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا. الذين ظلوا يركضون خلف السلطة، حتى إذا جاءوها وفتِّحت لهم أبوابها، جثموا على صدورنا، وكبيرهم باسط ذراعيه بالوصيد في قصر غردون، إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر
* كل الاقتباسات في المقال من كتاب للمؤلف بعنوان (محنة النخبة السودانية) والصادر في العام 1993م
faldaw@hotmail.com