١٧عندما خرجنا من الشقة حرص صاحب العمارة الشاب الصيني الحليق الأنيق على وداعنا بلطف على غير العادة فوعدناه بأن نتجه إلى شقته كلما جئنا كندا، وحينما علم بامتلاكنا شقة مماثلة في أميركا وعد بالنزول فيها. وهكذا جاء تنسيق عفوي قاده حسن التعامل من صيني ذكرني نكتة السوداني الذي زار صديقه الصيني في بيته، فقال له:
انت يا ماو كثير من الناس بيقولوا إنو الصينيين متشابهين شديد
فجاء الرد: ماو في الحمام.. أنا زوجته!
بكدهم تطمح الصين لبلوغ ضعف الاقتصاد الأميركي بعد نحو عقد فيما تسجل نصف مليون براءة اختراع سنوياً.
كنا نبتعد مسرعين من فانكوفر أي هولوود الشرق ذات الطراز الأوروبي التي تعدّ في مصاف تورنتو ومونتريال فيما تجيء العاصمة أتاوا الرابعة سكاناً في كندا التي تصنف من مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى والعشرين الأقوى اقتصاداً، ومن أبرز صادراتها الطائرات والسيارات والمعادن والقمح. ويتحدث أهلها الإنجليزية سوى مقاطعة كويبك الناطقة بالفرنسية لأنها خضعت لاستعمارها لذا تعتمد اللغتان رسميتين.
ستظل كندا بمساحتها الشاسعة وإمكاناتها الهائلة ومواردها المتنوعة حلم المهاجرين، فالتعليم فيها مجَّانٍ حتى الجامعي والعلاح ميسر، وفرص العمل متاحة، وتوفر المساكن للأسر المهاجرة وسط شعب ودود متعاون.
وصلنا اللحظة الحدود بين الدولتين التي تعد أطول حدود في العالم الممتدة بين المحيطين الأطلسي والهادي ويطويها الطيران في ٦ ساعات متواصلة.
رأينا هذه المرة العودة بحرا فاتجهنا للساحل .. منطقة سيدني المسماة بالمدينة الأسترالية الشهيرة، ولم يستغرق إجراء دخول أميركا سوى دقيقين فتابعنا السير على رصيف ممتد داخل البحر نحو ٥ كلم ثم توقفنا بنهاية صف السيارات ونزلنا عند مجمع كبير يحوي متاجر ومطاعم متعددة يصول فيها خلق متنوع السحنات واللغات.
جلست على مقعد بالخارج أتناول الفطور وإذا بشاب وشابة على بعد متر مني في عناق ونجوى دون اكتراث بمن حولهما من أسر وأفراد لم يحفل بهما أحد .. إنه تباين الثقافات!
خرج القادمون من أميركا تباعاً من العبارة ذات الطوابق .. الراجلون ثم قائدو الدراجات الهوائية والبخارية، وخلفهم سيل السيارات المتدفق.
تحرك بعدئذ صفنا فتركنا سياراتنا في الطابق القاعدي، وصعدنا لأعلى فمخرت العبارة البحر وهواء الشمال النقي يداعبنا، فنحن لسنا بعيدين عن ألسكا الولاية الأميركية المتاخمة لكندا’ التي تحوي ٣ ملايين بحيرة و١٠٠ ألف نهر جليدي التي تمثل نصف أنهار العالم الثلجية.
نمر بجزر تتزيا بأردية الخضرة والجمال تبدو على حوافها بيوت جميلة، فيما تقطع سيرنا قوارب بخارية مسرعة تربط بينها وبين البر.
بعد قليل مررنا بإحداها التي تعد الخط الفاصل بين كندا والولايات المتحدة الجارتين الحميمتين اللتين يكاد يتعادل دولاراهما إلا من هامش.
ترسو العبارة في جزيرة أميركية مأهولة كبيرة يمتلئ مرفأها بمختلف اليخوت والقوارب فينزل ركاب ويصعد آخرون.
نستأنف الإبحار مجدداً، ثم نلقي مراسينا عند البر الأميركي بعد نحو ساعتين.
عند خروجنا راجع شرطي صندوق السيارة الخلفي في لمحة، واندفعنا في الطريق، فأعاد بسام عداد المسافات للأميال.. مدن عامرة وقرى تنازعها في المعمار ومزارع ممتدة تمرح فيها قطعان من الأبقار الممتلئة بضروعها المكتنزة.
في هذا الجو المتناغم حدث ما لم يكن في الحسبان .. سيارة تكاد تطير من حولنا في سرعة ذرووية كأنها في صحراء العتمور أو في سباقات الراليات، ويمضي موكب السيارات، وبعد دقائق قليلة سيارات الإسعاف والمرور تتدافع وحطام سيارة مهشمة وجثمان مسجى على قارعة الطريق.
إنه ثمن التهور والرعونة! ولفنا حزن عليه عميق.
ما إن حلّ المساء حتى انطلقت الألعاب النارية على طول الطريق تشعل السموات ألقاً وروعة ،فهم يحتفلون بعيدهم الوطني فخورين ببلادهم المتقدمة .. كما كتب الكابلي وغنى أبوعركي عن جبل مرة:
زفة ألوان
زهر بسام
نادي وريان
بينها الوردي والبنفسجي وعبارات حب وعرفان تسطر بخطوط هندسية بديعة.
حينما دخلنا مدينتنا الجميلة الزمردة كان الوقت بعيد المغرب ولاتزال عاصفة تفجيرات الألعاب النارية تتأجج. ولم ينم الناس في ليلتنا البهيجة حتى مطلع الفجر مع تتابع الاحتفالات والسهرات ومهرجانات المفرقعات الفرحية’ وحق لهم شلالات الفرح.
إنها أميركا!
أنور محمدين
سياتل