تداول سودانيون مقطع فيديو، تستعرض فيه السيدة جاسيندا أردرن رئيسة وزراء نيوزيلندا حصاد عامين لتوليها الحكم. قالت رئيسة الوزراء المؤدبة، أنها بنت 2200 منزلا للفقراء وولدت 92ألف وظيفه ووظفت 1600 ضابط شرطي مع رفع أجور الممرضات والمدرسين والشرطة. فضلا عن توزيع حكومتها وجبات مجانيه لأطفال المدارس وغرس 140 مليون شجرة في أنحاء البلاد. وأضافت أنها سنت قانون يحظر حمل الأسلحه وقانون آخر يمنع استخدام الملوثات كالبلاستيك وحاكمت من يخالف.
انخرط السودانيون في مقارنات على غير قياس بين أداء الرئيسة جاسيندا وأداء بعض وزراء الحكم الانتقالي. قال البعض ساخراً إن الجواب ليس من عنوانه وإنما بآخر سطر فيه. فمن ثمارها تعرفونها. ونظرا لأن الفترة الإنتقاليه لم تتجاوز شهرين اثنين، فإن الناس يرون نهاية الفترة الإنتقاليه من بداياتها. إذ بنهاياتها قد يقول البعض، أنهم كانوا مشغولين بمبارزة أشباح الإنقاذ وآخرون بمساجلة جماعة شيخ (جبرة) ورفيقه صاحب مطعم (الفورسيزنز). وسيبرز القراي بالذات كتاب إنجازات مدهشه منها إكماله شرح (المحموديه) وتبين فضائلها، وأصح الوسائل للغرف من أرشيف شيخه في جواز (صلاة الأصاله). وقد تكون من إنجازات وزير التربيه فصل خبرات من أمثال مختار محمد مختار مسئول امتحانات الشهادة السودانيه. وتكون إنجازات الوزيرة الآنسه أنها قالت لواحد( الرجل الني).
وأيا تكن التعليقات الساخرة والتطلعات أو الإحباطات أو المقارنات الشعبيه، وايا تكن قسوتها، فإن الفترة الانتقاليه تظل مدفوعه بتوقعات شعبيه عاليه تقابلها صعوبات حياتيه فوق الاحتمال. ولكن ما يضاعف من وطأة ضغوط الحياة على الناس ممارسات بعض الوزراء. فمن يراقب أداء بعضهم يموت همًا وغيظًا لفرط ما في تلك الممارسات من أمراض التلكوء الإداري وآفات وعلل تلامس العجز التام عن ابتداع وسائل لحل مشاكل معلومة. وهذا الأداء إن لم يتم تلافيه فسيستنزف حتمًا وقت الفترة الإنتقاليه. وقد يحول مياه الثورة وحيويتها وشبابيتها إلى مياه آسنه توزع اليأس وتعمم الإحباط. وأرجو أن لا يترك البعض مهامهم الأساسيه في حل مشاكل الشعب وينشغلوا بأولويات مختلفه. فإن فعلوا فكأنهم يستبطنون القول بأن الحاضر لن يكون إلا على صورة الماضي ولا تتوقعوا منا سوى تكرارًا لمآسي الإنقاذ وعجزها وخطبها وتخبطها.
ومع أننا ضد بث اليأس ونشره وقد ظللنا على موقف متمايز يؤكد أن الوقت لا زال مبكراً للمقارنات أو إصدار الأحكام على الحكم الانتقالي، إلا أن الواجب الوطني يملي التنبيه بضرورة مداورة جراح الوطن ولو بأضعف الإيمان. وهو إرسال إشارات للمواطن بأن هناك خطة مرتبطة بالخطة القوميه للفترة الانتقاليه. وأن الوزراء يعملون ويؤمنون بالعمل الجماعي وبروح الفريق. وأن الحكم الانتقالي في ملعب ينسجم فيه المدافعين ولاعبي وسط والأجنحه ومهاجمين يحرزون الأهداف ضد الفقر وضد الغلاء وضد الجهل وضد الفساد وضد الثورة المضادة وضد الأمراض الموروثة. وهي إشارات بسيطة ولكنها تبث الطمأنينة وتهديء من قلقل مواطن لم يعد يطيق الصبر بدون بصيص أمل بنهاية النفق. فذاكرة المواطن تستعيد ما عايش من حكم الإنقاذ الذي كان يسبح في فضاءات تبتعد عن العلميه وعن روح الفريق وأدمن مشجب قديم بائس(بكرة يحلها ألف حلال). والسودان لن يتقدم قيد أنمله بذلك النهج. وقد لا يعبر للمستقبل، إلا بتجديد مفهومه للتخطيط وللزمن وعلاقة الموظف العام بالوقت. فلا نزال نعاني من علاقة مأزومه ومتوترة مع مفهوم الوقت لغياب الخطط والالتباس الذي ينتج عن عدم وجود رؤية
وتقتضي الموضوعية الإشارة لأزمات السودان الحاليه بأنها مولود شرعي لغياب التخطيط. وقد ظل علة مرضية مزمنة. وليس ثمة حل له إلا (بداوني بالتي كانت هي الداء) أي توسل الحكم الإنتقالي التخطيط كوسيله للعبور. صحيح هناك نقص حاد بعلم المستقبل عند البعض. باعتباره مفهوم جديد لم يحيطوا به علمًا. ولكننا حتماً نحتاج للعلم لتجاوز أزماتنا ولمنع الهلوسة السياسية والحديث الانصرافي عن صلاة (الأصاله). فرهان الثوار على علم المستقبل رهان على الوعي ورهان على ما سيقود المسئول ويدفعه إلى النهوض بمسئولياته. وهو ما يملي علينا جميعا عدم مداهنة من يضيعون وقت البلد في مبارزة الأشباح. إذ ينبغي تفعيل النقد الذاتي لترسيخ ثقافة التخطيط ووسائل التنفيذ وإعمال آليات المساءلة والمحاسبة. هذا إن أردنا نجاح الثورة واللحاق بالعصر والخروج من الهوة السحيقه التي تردى فيها وطننا.
إن توقعات الإنسان السوداني قد تبدو متعجله ولكنها توقعات مشروعه ومعقولة ومنطقيه. وتحقيقها يتم بالتطبيق الدقيق والابداعي للبرامج. وبإدراك كل مسئول أن الاجتهادات الفردية ومجاراة الظواهر، لا تعدو أن تضيف كارثة لكوارث العقود الثلاثة الماضية. ونضرب الأمثال، ليتضح المقال. إذ يشتكي المواطن من تضخم الأسعار وهو حالة موروثة ومرتبطة بسياسات اقتصادية وماليه ونقدية. ولكنه يتساءل ما الذي طبق من الخطة المعلنه للحد من التضخم؟ ومع إدراك المواطن لارتباط القوة الشرائية للعملة الوطنيه بظاهرة تراجع الإنتاج والإنتاجيه. إلا أنه يشاهد تفشي الممارسات القديمه مع غياب سياسات التحفيز والتمويل. فالسؤال الذي يطرحه المواطن كيف تتحقق الإنتاجية إذا كانت السياسات تراوح مكانها؟ ومن الأمثله الصارخه التي تؤكد هذا الاستانتاج الجباية التي يقوم بها ديوان الزكاة هذا العام فهي تعكس نفس نهج الالتباس القديم وغياب الرؤية. فديوان الزكاة اليوم يأخذ من حصاد كل مزارع (شوال) سمسم عن كل قنطار ثم يأخذ من التاجر الذي اشترى من ذات المزارع زكاة أخرى بنفس المقدار. وفي جهة مقابلة تمنع الحكومة الانتقاليه المعدنين الأهليين، استخدام الزئبق وهي على حق ولكنها لا توفر لهم بدائل. ويمكن للمرء إيراد مئات الأمثله عن التعامل البائس مع الأزمات ومع مدخرات المهجرين والمستثمرين والجمارك. والشاهد أن الحاجة لنقد الممارسات التي لا تزال تجسد العشوائيه مهم حتى لا يقال أنها تعكس بؤس التخطيط للمستقبل. وحتى نتحرر من (الاجتهادات) العشوائية والتخلص من نهج (علوق الشدة). هذا إن أردنا النجاح ومحاكاة السيدة جاسيندا في مفاهيم الإنجاز والصدق مع الشعب. إني خيرتك فاختاري.